الأردن يبتعد عن الدبلوماسية في مخاطبة «الممولين» وقناعات «مؤسسية» بأن اقتصاده «مستهدف بالتضييق والخنق»
اجتهادات بالجملة وراء ستارة الدولة وغياب المساعدات وحجب الاستثمارات
يستخدم وزير التخطيط والتعاون الدولي الأردني «لغة أخشن» قليلاً وهو يتحدث مع مسؤولي البنك الدولي، أمس، مؤكداً بأن الطريق الوحيد لمساعدة بلاده دولياً لا يمكنها أن تعبر بواسطة «خنق الاقتصاد والتضييق عليه».
لافت جداً هنا وبعدما قفز الملف الاقتصادي إلى الواجهة قبل أي اعتبار آخر في الأردن أن الوزير الدكتور محمد العسعس يتخفف من دبلوماسيته المعهودة وهو يستفسر عن جدوى خنق اقتصاد بلاده والتضييق عليه. تلك أدبيات لا يستعملها المسؤولون الأردنيون بهذا الوضوح في العادة، خصوصاً مع مسؤولي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ولافت أيضاً أن الوزير العسعس لم يحدد ما الذي يجري في هذا السياق، ولا من هي الجهات التي تحاول «خنق» الاقتصاد الأردني، ومثل هذا الخطاب الاشتباكي الاتهامي إلى حد كبير يؤشر على أن الحكومة الأردنية «غير متاحة» لطريقة تصرف المجتمع الدولي مع بلاده، وإن كان الوزير نفسه قد ألمح، في حديث سابق مع «القدس العربي»، إلى ضجر بلاده من خطة الجباية والتصعيد الضريبي. باختصار قالها العسعس أمام طاقم البنك الدولي في جلسة خصصت لمناقشة تحديات الاقتصاد الأردني: المطلوب تحفيز النمو الاقتصادي لخلق وظائف وجذب الاستثمارات الخارجية.
وهنا الإشارة الأقوى على لسان مسؤول أردني عن «تسييس» الاستثمارات في بلاده أو ربطها في مسارات سياسية بصورة تؤدي لخنق الاقتصاد الوطني، الأمر الذي يعكس بالنتيجة بوصلة نقاشات صريحة تجري خلف الستارة وفي ظل القصر الملكي بعنوان تقييمات تتوقع حصاراً اقتصادياً على البلاد له أجندة سياسية.
ليست وظيفة العسعس ولا الطاقم الوزاري التحدث عن هذا التسييس. لكن اللهجة التي يتحدث بها الوزير المختص بملف التعاون الدولي والتخطيط توحي بأن عمان بدأت توجه رسائل التحذير لجهات دولية تحاول محاصرة وخنق الاقتصاد الأردني.
في التشخيص والتوقع، لم يعد سراً في عمان القول بأن الإدارة الأمريكية الحالية هي «المتهم الأول» بالنسبة لدوائر القرار الأردني خلف الستارة من خلال التلويح بمراجعة ربط الدينار والدولار ورفض تقديم مساعدات إضافية.
ومن خلال ما يرشح من مسؤولي السفارة الأمريكية في العاصمة عمان حول نية بلادهم «مراقبة» إنفاق المساعدات الأمريكية والإشراف المباشر عليها، الأمر الذي ينتج عنه تشكيك سياسي بلهجة ابتزازية للحكومة الأردنية، في الوقت الذي يقول فيه مختصون محليون بأن أموال المساعدات الأمريكية لا تنفق في الاتجاه الصحيح.
سمع مستشارون ودبلوماسيون أمريكيون مثل هذه الطروحات المتعجلة ضد حكومة بلادهم في عمان نفسها.. بمعنى، من الصعب توجيه اللوم للأمريكي أو غيره إذا كانت حكومة الأردن لا تستطيع إقناع مواطنيها بآليات الإنفاق.
في كل حال، يعتقد على نطاق نخبوي واسع في الأردن بأن إدارة وطاقم الرئيس دونالد ترامب يحاولون مضايقة الاقتصاد الأردني والتضييق على عمان لأغراض ما يسمى بصفقة القرن التي يعتقد أنها تتضمن سلاماً تحت لافتة التجويع والإنعاش الاقتصادي، وليس سلاماً حقيقياً من النوع الذي يخدم مصالح الأردن ويحميها أو يوفر المظلة لعملية سلام منطقية.
عملياً، في رأي المفكر السياسي عدنان أبو عودة، مضمون صفقة القرن لا يناسب ولا بحال من الأحوال المصالح الأساسية للشعبين الأردني والفلسطيني، والفكرة التي يحاول ترويجها ترامب وطاقمه خالية تماماً من الدسم والمدلول السياسي وتسعى للحديث عن سلام يقدم حلولاً اقتصادية لـ»سكان وأهالي» فقط.
طبعاً مثل هذا الطرح يقدم أسرع وصفة للمساس بالمصالح العليا للدولة الأردنية، الأمر الذي برر أصلاً مشاركة الأردن الخجولة في مؤتمر البحرين، كما برر «كلا الثلاثية»، الشهيرة للملك عبدالله الثاني، ولاحقاً برر ما قاله لـ»القدس العربي» أحد كبار مستشاري القصر الملكي الأردني حول «عبارة واحدة ولغة واحدة سمعها جاريد كوشنر في عمان من جلالة الملك».
ويعني كل ذلك أن الأردن بدأ يقول بأن موقفه السياسي من أجندة صفقة القرن الغامضة وسعي بعض الأطراف لتحويله لمجرد «جغرافيا» تخدم أهدافاً سياسية هو الأساس، والسبب أولاً تحرشات بعثة صندوق النقد الدولي بآليات الإنفاق وعدد الموظفين في مؤسسات «سيادية»، وثانياً في تنمية خطاب يحاول «الضغط أكثر» على الأردن سلباً وحرمانه من «الاستثمارات الخارجية»، مما يؤدي إلى خنق الاقتصاد الوطني ولأسباب سياسية. ولم يقل الوزير العسعس ذلك بوضوح وصراحة، لكنه قاله ضمناً وبالإيحاء وهو يتحدث بلهجة دبلوماسية وتقنية وفنية ولأول مرة مع البنك الدولي عن «خنق اقتصاد بلاده» والتضييق عليه مرة بالتركيز على التصعيد الضريبي ومرات بحرمانه من الاستثمارات الخارجية التي تدعمها بالعادة أجندات سياسية.
عندما يتخلى وزير أردني مغرق بـ»النعومة» عن اللغة المألوفة ويلجأ لتحذيرات فيها بعض الخشونة بالرغم من سلسلة أخطاء داخلية في إدارة الأزمة والمال والخزينة.. عندما يحصل ذلك ببساطة يمكن القول بأن الأردن بدأ «يتخشن» ويشعر بالضيق الشديد وهو يتحدث مع «الممولين».