الإضراب والمقاطعة واحتضان المقاومة… ألغاز الشعب الأردني: كيف يقرأها عقل الدولة؟
عمان ـ «القدس العربي»: خياران أمام دوائر صنع القرار الحكومي في الأردن عند محاولة «قراءة» الإضراب الغامض الأخير ثم «اعتماد إجراء» يناسب تلك القراءة.
الخيار الأول وهو «مكلف للجميع» اعتبار «المشاركة الاستثنائية» لجموع الأردنيين في مختلف مكوناتهم ومواقعهم بذلك «الإضراب» تحولاً «دراماتيكياً مقلقاً بيروقراطياً» وخطراً على «الدولة» ويستوجب سلسلة «الدراميات المألوفة» تحت عناوين الاحتواء والضغط وأحياناً القمع مستقبلاً بذريعة ملامسة حالية «عصيان مدني» أصبحت محتملة مستقبلاً.
الخيار الثاني بعد امتصاص «القلق» والاجتهادات «المتشنجة» للبيروقراطيين والإعلاميين محترفي «التجول في مساحة نزع الثقة ما بين القيادة والناس» هو التعاطي مع «حالة الإضراب» بعيداً عن «المعيار الأمني» فقط وإعادة قراءته على أساس أنه «سلوك اجتماعي» بصيغة «مكسب كبير» يمكن الاستثمار به لصالح «الموقف والثابت والرؤية والمرجعية».
في السيناريو الأول محاولة ملموسة من «صحف حكومية» أو موظفين يمتهنون «التشكيك» بالشعب عموماً أو متطفلين على المشهد العام لصناعة «وهم» اسمه الإضراب وأخطاره بعد تسلله بغفلة الجميع وتخويف مكثف من احتمالات تكراره.
«المقدس الوطني الأردني»
أصحاب تلك النظرية الذين يمكن التعثر بهم في عمان هنا أو هناك، يتحدثون عن «إضراب» وينبغي أن يخيف الجميع دون أدنى التزام مهني بحقيقة وجوهر حقيقة أن «الإضراب الناجح» بامتياز، كما وصفه المعارض الشيخ مراد عضايلة، مرتبط هذه المرة بـ «مقدس وطني أردني» اسمه «فلسطين» ولا علاقة له بأي «مطلب إصلاح داخلي» لا سياسياً ولا خدماتياً، وخلفيته الزمنية هي صور القصف الإسرائيلي الهمجي لأطفال ونساء غزة، والأهم إحساس الأردنيين عموماً بأن دولتهم غرقت في سلام لـ 30 عاماً مع هؤلاء المتوحشين من حكام تل أبيب.
فوق ذلك، أعقب الإضراب كل تلك المواقف النبيلة المؤثرة ملكياً ودولياً، التي قادت عملياً «حماسة الشعب الأردني» كما أعقب -أو حتى تأثر- بالحراك الحيوي النشط لوزير الخارجية أيمن صفدي الذي وصف إسرائيل اليوم بعبارات «غير مسبوقة» منذ توقيع اتفاقية وادي عربة عام 1994.
هنا حصراً يعيد السياسي المخضرم الدكتور ممدوح العبادي تزويد «القدس العربي» بنسخة إلكترونية من «ميثاق حزب الليكود» حيث النص الأول تحت قائمة «أولويات الحزب» يشير إلى «إقامة دولة إسرائيل اليهودية على الضفتين الغربية والشرقية». سابقاً، كان دعاة السلام والتطبيع في عمان يسخرون من ذلك النص ويعتبرونه مجرد «خرافة».
لكن تلك الخرافة وفي وصف العبادي «انتخبت حكومة بأكملها» على أساسها وتمثل غالبية مكونات الكيان والأكثر خطراً لاحقاً، فتلك الحكومة التي انتخبتها خرافة شكلت طاقماً قرر «حسم الصراع» ووزير ماليته ونجل رئيس الحكومة رفعا «خارطة» تضم المملكة الأردنية الهاشمية باعتبارها «جزءاً من إسرائيل الكبرى».
والمسألة لا تقف عند هذه الحدود؛ فحكومة «الخرافة» تلك «ابتلعت والتهمت» مؤسسات العمق الأمنية والعسكرية التي تقصف وتأتمر وتهجر الأهل في القطاع والضفة بعد 30 عاماً من جلوسها في حضن «الشراكة» مع دول ملتزمة وأخلاقية مثل الأردن.
لذلك، يفترض العبادي أن «الخطر ليس غرب نهر الأردن، بل على شاطئ النهر الخالد» والأفضل لنا –نحن الأردنيين- هو التصرف على هذا الأساس؛ لأن «الصدام حتمي ووشيك وقادم لا محالة» وواجب مؤسساتنا الدستوري والوطني أن «تعد شعبنا» لهذا الصدام، ولأن «الخطر بمثل هذا الحجم» لامس مع صور مجازر غزة وجدان وقلوب الأردنيين واستقر فيها.
وقرر الشعب الأردني، برأي المحلل السياسي الدكتور رامي العياصرة، «تحصين نفسه قدر الإمكان» واندفع باحثاً عن «أي وسيلة أو تقنية» لقول كلمته في مواجهة «العجز» مع محاولة لفت نظر حكومته لخوفه عليها وعلى الدولة والوطن وعلى الأهل غرباً وشرقاً.
تأسيساً على هذا التحليل، يمكن الافتراض بأن «التجاوب الشعبي الهائل» مع إضراب الإثنين الماضي الذي أقلق بعض البيروقراطيين وعقدت اجتماعات من أجله إنما منبعه ومرده هو «خوف الأردني على نظامه ووطنه» بالمقام الأول، وكرهه الشديد لإسرائيل وما تفعله، وليس «أجندة بائسة» هنا أو «تأزيم مريب هناك» كما ألمحت صحيفة حكومية لا تبدو متمرسة.
السؤال الآن يصبح كالآتي: كيف لعقل الدولة أن يشعر بالقلق بدلاً من «القوة والتحصين» عندما يلتزم الشعب بمقدار كبير بإضراب تقرر بالخارج؟
صحيح أن فكرة «الإضراب» كانت مستوردة ولحقت بها القوى المحلية وفي الساعة الأخيرة، «الأمر الذي يجعل الاستجابة الضخمة لغزاً يستحق التأمل».
وصحيح أن الشارع الأردني سبق «استجابته للإضراب» بلقب الصدارة الأول عربياً في مضمار آخر وهو «مقاطعة السلع للشركات المؤيدة للاحتلال» وأن الصف الحكومي «ابتلع لسانه» لهاثاً وهو يحاول عبثاً «إعاقة» كل منهما.
لكن صحيح بالمقابل، أن استجابة الإضراب وقبلها «صدارة المقاطعة» هما من قبيل ظواهر على شكل «رسائل عميقة» من الشعب لمراكز قرار دولته ينبغي أو يجب أن «تقرأ» بكل العمق المسؤول قبل أي سيناريو يستسهل قمعها و»تخشين القول والإجراء» ضدها؛ لأن ذلك -برأي العياصرة- «قد يرفع فاتورة مشكلة نحتاج جميعاً للتوقف عن إنكارها».
«الاحتفال غير المبرر»
في الحديث عنهما – الإضراب والمقاطعة – ينبغي أن تنسى الحكومة ذلك «الاحتفال غير المبرر» بمناسبة توقيع «منحة مقررة سابقاً» من الولايات المتحدة بحضور سفيرة واشنطن «المحبة للشاورما» يائيل لمبرت.
وينبغي أن يسقط من حساب «الإجراء» التعاطي فقط من «منظور أمني» فقط مع الحدثين، ليس لأن «التبديل أو التلاعب بقناعات الجمهور الأساسية والوجدانية» اليوم «غير ممكن» بل أيضاً لأن «العبث بيروقراطياً» مع «مقدسات شعبية» أفرزتها معركة طوفان الأقصى اليوم بات خطوة «يمكن الاستغناء عنها» وثمة «بدائل لها» خلافاً لأنها «قد تحرق بعض الأصابع» وتسقط بعض الرؤوس على أساس أن موقف الشارع مما يحصل في فلسطين الآن «لا يقبل» إطلاقاً مثل الموقف الرسمي «القسمة على اثنين» و»لا ولن يتحدث بلهجتين».
ثمة قراءة أقل درامية يقترحها الخبراء والعقلاء، فالشعب الأردني «يتطرف» اليوم في الملف الفلسطيني دفاعاً عن الحق وعن نفسه وعن مؤسساته، وخوفاً من الصفحة التالية لليمين الإسرائيلي والغطاء الأمريكي له.
الأفضل في نصيحة هؤلاء تحويل موقف الشعب الذي عبرت عنه بوضوح فعاليات «الإضراب والمقاطعة» كما عبرت عنه سابقاً تقارير السفيرة لمبرت التي تضمنت «أكثر من 80% من الأردنيين يدافعون عن حماس والمقاومة» إلى «ورقة قوة» تفاوضية وتدعم «الثوابت المرجعية» و»ذخيرة» للاشتباك السياسي- الدبلوماسي تحتاج للدعم والإسناد الرسمي بدلاً من «التشكيك والشيطنة».
«الإضراب والمقاطعة ودعم الشارع للمقاومة».. سلاح ثلاثي منتج في يد «المفاوض الأردني الرسمي» إذا ما أحسنت الدولة استعماله، برأي العبادي.
وهو سلاح «قد يقفز» بالمنحة الأمريكية إلى ما بعد الـ 850 مليون دولار التي احتفلت بها السفيرة لمبرت مساء الثلاثاء بحضور «بهي» للطاقم الوزاري، وطبعاً دون مبرر.