دلالات «مسكوت عنها» في «أرقام» انتخابات الأردن
عمان – «القدس العربي» : لا أحد على الأقل من مسؤولي ورموز السلطتين التنفيذية والتشريعية الجدد في الأردن يريد العودة إلى الوراء قليلاً لقراءة الانتخابات ونتائجها بصورة أعمق، مع أن الانطباع مكدس بأن تلك النتائج ساهمت في توضيح شكل وهوية وملامح التشكيلة الوزارية الجديدة في السلطة التنفيذية.
مسألتان في كل حال، تحتاجان للاستنتاج العميق على مستوى وطني؛ الأولى يمكن ربطها بالسؤال الذي تكرر آلاف المرات دون جواب بعد: كيف صفعت أحزاب الوسط بالنتائج وأخفقت بشكل ملحوظ في منافسة الإسلاميين بفارق كبير بالقوائم العامة ولماذا؟
المسألة الثانية محتواها سؤال أكثر حساسية: ما هي الظروف التي دفعت نحو 465أالفاً من المواطنين المقترعين للذهاب إلى الصناديق والتصويت لنواب الإخوان المسلمين بمعنى التصويت لـ “الضد”؟
حتى اللحظة، أي محاولة جدية للإجابة عن مثل هذه الأسئلة ستصدم الجميع بحائط ما، وإن كان رأي السياسي الخبير الدكتور ممدوح العبادي كما فهمته “القدس العربي” بأن الملف طارح للأسئلة ولا بد من الإجابة عليها. لكن الجواب مطلوب وبإلحاح لفتح صفحة جديدة والمضي قدماً بمسار التحديث السياسي.
وهنا تبرز مفارقات الأجوبة بعد التحليل العميق، لأن الجميع اكتشف مثلاً بعد نتائج الانتخابات بأن أحزاب الوسط المصنفة بالموالاة خاضت عملياً المواجهة ليس فقط بدون أموال للنفقات ولكن بدون مرشحين أيضاً، وفقاً لتعبير استعمله أمام “القدس العربي” أحد قادة التيارات الوسطية.
سؤال مركزي
ولعل المفارقة المتمثلة بارتفاع نسبة الاقتراع 3 درجات مئوية فقط بعد كل ورش العمل والمؤتمرات والعصف الذهني والوثائق، هي في طريقها للتحول إلى سؤال دولة مركزي ومرجعي له تأثيرات لاحقاً على طبقة لا يستهان بها من الموظفين.
نسبة الاقتراع “قاربت 32%”، ولولا التيار الإسلامي لانخفضت إلى مستويات بائسة جداً. وهذا الوضع في مسألة المشاركة يعطي الإسلاميين أفضلية دائمة. صحيح أن نزاهة الانتخابات كانت خطوة في غاية الأهمية في بناء استعادة الثقة في العملية الانتخابية، وهي خطوة قابلة للتراكم بعد الآن، لكن صحيح بالمقابل أن الإخفاق في إقناع الأردنيين ورفع نسبة المشاركة بعد مسار التحديث بشكل محدود وبائس قد يتطلب وقفة ذات تأملية على مستوى صناعة القرار ما دامت الفرصة سانحة الآن لقراءة الممحو أو “المسكوت عنه”، وقد يتطلب مراجعات لا بل مساءلات تطال بعض نخب المؤسسات، كما يتطلب فهم ما الذي قيل وينطوي على تضليل لدوائر القرار وما الذي لم يقل، الأمر الذي قد يظهر قريباً بصورة تغييرات هنا وهناك على مواقع صف أول في بعض المؤسسات التنفيذية.
بالتوازي، مكاسب الدولة العميقة في الواضح لا تقف عند حدود الانتخابات النزيهة ومكاسبها، فهي بمجمل الأحوال رسالة إقليمية للخارج تسبق توقعات في الدولة الأردنية العميقة بفوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كان شبحه بكل حال يتجول حول صناديق الاقتراع الأردنية.
لكن المكاسب ذاتها لا تقف أو قد لا تقف فيما بين أسطر ما لم يقل بعد عن الانتخابات عند حدود مثل تلك الرسالة الدولية الطابع، بل قد تتجاوز باتجاه فهم طبيعة انحيازات الأردنيين في هذه المرحلة الحساسة والحرجة التي قد تشهد تغييرات في خارطة الإقليم برمته.
أحد كبار مسؤولي الحكومة المستقيلة همس في أذن “القدس العربي” قائلاً: “مغرفة الانتخابات الحرة حملت ما في طنجرة الشعب الأردني”… لذلك يصبح السؤال: بعد معرفة “نوايا” الناس الانتخابية بوضوح، ما الذي يتعين للدولة أن تفعله؟
تمكن عقل الدولة عبر أذرعها اليوم وبعيداً عن استطلاعات التنبيه الموثوقة التي جرت قبل الانتخابات من الاطلاع لا بل لمس ما يريده الأردنيون في الواقع، خصوصاً بعدما صوتت كتلة تمثل ثلث الناخبين على الأقل لخط التيار الإسلامي أو لخط المقاومة الفلسطينية، وهو درس مفيد في التعليم والتصويب والانتباه لاحقاً على مستوى الدولة وليس الأشخاص والمؤسسات فقط، أو قد يصبح عند التوظيف لاحقاً مفيداً أكثر إذا قرأه “أصدقاء عرب” يدعمون بـ “القطارة” الاقتصاد الأردني، أو “حلفاء غربيون” يضايقون الأردن ويتلاعبون بمصالحه بسبب ضعفهم في مواجهة “يمين إسرائيل”.
أخفقت مجمل فعاليات هندسة أحزاب الوسط بوضوح، وتبين أن هذه الأحزاب التي خضعت لفك وتركيب عند تأسيسها، وأغلب الظن أنها ستخضع مجدداً بعد نتائج الانتخابات، تعرضت لـ “صعقات هندسية” تنطوي على “حول سياسي” وفي الاتجاه الخاطئ أصلاً.
تلك الفعاليات الهندسية لم يوازها حضور شعبي عريض يحمل هذه الأحزاب خصوصاً بعد الحقيقة الرقمية الصادمة التي تظهر بأن الإخفاق في دمج الأحزاب وتوحيد قوائمها انتهى تماماً بإهدار نحو 600 ألف من أصوات الناخبين.
نمو التيار الإسلامي
حصل ذلك أيضاً مع أحزاب التعبير اليساري التي رفضت الاندماج والتوحد انتخابياً، فجمعت 76 ألفاً من الأصوات، ولم تحصل على مقعد واحد في البرلمان لأنها مع التيارات المدنية التي استرخت قليلاً في حضن الدولة اليساري حصراً، ولعبت الانتخابات منفردة؛ فلم تتجاوز العتبة المطلوبة.
المراجعات تشمل ملفات وقضايا مسكوتاً عنها وتطرح على الدولة من داخلها أسئلة صعبة ومحددة. لكن الأهم قد يكون بناء تصور عن البرلمان القادم في ظل إخفاقات الوسط ونمو حضور التيار الإسلامي، فالقانون ينص على ارتفاع عدد المقاعد المخصصة للأحزاب عام 2028 إلى 50 % وفي الانتخابات التي تليها إلى 65 % من المقاعد.
تلك أرقام مرعبة للسلطة ورموزها إذا ما استمر التيار الإسلامي بالزحف وإذا ما كانت أرقامه دقيقة عندما اختار نحو نصف مليون مواطن على الأقل التصويت لمرشحيه، فهؤلاء قابلون للزيادة، والفكرة أصبحت –وقد يكون ذلك أخبث المقصود– أن الاسترسال في مسار تحديث المنظومة سيضع البلاد في حضن التيار الإخواني.
يقول ذلك البعض الآن، لكن يقولونه ليس من باب التشخيص الدقيق للمشهد، بل من باب السهر والحرص على إعاقة مسار تحديث المنظومة بكل ألوانه، الأمر الذي قد يؤشر مجدداً إلى أن نخب الدولة ليست موحدة بعد خلف فهم وهضم برنامج التحديث السياسي.