«فاتورة المياه» بعد «المحروقات»: هل علق الأردن في المواجهة «القديمة» بين صندوق النقد والشارع؟
عمان – «القدس العربي»: ترجح أوساط خبيرة ونخبوية وسياسية عليمة في تفاصيل المشهد الأردني بأن مجلس الوزراء أو على الأقل الخلية الوزارية التي تشكل “مطبخ الحكومة”، شعر قبل نحو أسبوعين بأن الحراك “المايكروفوني” لبعض أعضاء مجلس النواب المباغت وعلى نحو مفاجئ، لم يكن بريئاً على الرغم من تسويق النواب لتلك النظرية التي تتحدث عن تخصيص مساحة، ولو صغيرة، لانتقاد الحكومة على ألسن النواب بهدف استقرار السلطة التشريعية، واستعادة هيبة مجلس النواب ضمن احتياجات ومتطلبات نظرية قديمة ومعلبة باسم التفريغ السياسي.
يمكن القول بأن حساسية الوزراء في الاشتباك مع النواب قد تكون انطوت على مبالغة، لكن الحكومة لا تلام سياسياً على تقييماتها وسط الأقاويل عن توفير بعض مؤسسات القرار “الشرعية” لنهش الحكومة وانتقادها برلمانياً قبل أن “تفلت” تفاصيل المشهد لاحقاً شعبوياً.
الجرعة هنا على الأرجح كانت “أكبر مما ينبغي” لأن الحكومة اليوم أو مطبخها على الأقل وإن كان لا يقول ذلك لا سراً ولا علناً، لديها شعور بالإحباط جراء انفعال مجلس النواب في وجهها في ملف حساس، هو أسعار المحروقات والطاقة، المتلامس مع إشكالية الوضع المعيشي.
ليس سراً الانطباع هنا بأن لدى الحكومة تصوراً عن حراك حاول نهشها من جهة النواب، أو بدأ بالنواب ثم انتهى بالمشهد الذي يعرفه الجميع على الخط الصحراوي قرب مدينة معان الجنوبية.
حراك غير بريء
والأساس في الاستخلاص هنا أن هذا الحراك كان مبالغاً فيه أو لم يكن بريئاً، والأهم من وجهة نظر الحكومة في سياق جدل خلف الستارة والكواليس تعاظم في الأيام القليلة الماضية هو أن أقطاب البرلمان وقياداته كانت أصلاً برسم اختيار توقيت سيئ جداً لتمرير تلك الهجمة الانفعالية ضد الحكومة، والتي انعكست لاحقاً بانفعال أكثر منها عبر إضرابات الشارع تحت عنوان السائقين في قطاع النقل.
والمعنى هنا أن التوقيت كان حساساً للغاية، لأن بقية المؤسسات السيادية والرسمية في الدولة تعلم من قبل بأن الحكومة تحت ضغط أجندة زمنية حادة جداً قوامها ما كشف النقاب عنه في وقت متأخر تحت عنوان إصرار صندوق النقد الدولي على عدم توفير المصادقة، والاعتماد النهائي لما يسمى بوثيقة المراجعة الخامسة مع الأردن قبل يوم أمس الأربعاء.
وليس صدفة أن يوم 21 من الشهر الجاري هو اليوم الموعود بالنسبة للمطبخ الاقتصادي والمالي في الحكومة، حيث انتظار بلهفة للمصادقة على ما اتفق عليه مع بعثة صندوق النقد في الجولة الخامسة الأخيرة، وعلى أساس القناعة بأن العبور عبر تصنيفات صندوق النقد ثم البنك الدولي هو الجسر الوحيد المتاح أمام الأردن لمزيد من الاقتراض، أو الحصول على منح خارجية تساعد في الملفات الأساسية، ومن بينها ملفات خدمات المياه والبنية التحتية، بسبب الضغط الكبير والهائل على ميزانية الدولة المالية.
وهنا يبدو أن الحسابات تقاطعت، وأن مجلس النواب تعامل بقدر من الأداء المايكروفوني مع هذه الجزئية الحساسة، لأن صندوق النقد كان في حالة اعتراض جذرية وعميقة على تراجع الحكومة أو حكومة الخصاونة عن قرارها الذي اتخذته بداية الصيف الماضي بتثبيت أسعار الوقود والمحروقات لأربعة أشهر.
كلفة عالية جداً
وهو قرار يقول الوزراء إنه كلف الخزينة نحو نصف مليار دينار من العوائد على الأقل، لكنه قرار لا يعجب صندوق النقد، وكانت خطة الحكومة تقضي بأن تمر جلسة المفاوضات ويحصل الاعتماد أولاً حتى تتمكن الحكومة من البحث عن تمويل أو منح أو حتى قروض سهلة إذا ما سمح لها صندوق النقد والبنك الدولي بذلك. وهو أمر أحبطه الانفعال البرلماني أيضاً، وانتهى بالإضراب الشهير وما تبعه من أحداث أمنية، بحيث أصبحت كلفة الوجبة التكتيكية للطاقم المالي والاقتصادي عالية جداً، مع أن الحكومة حاولت العبور متسللة بين كل الاعتبارات بأقل ضجيج ممكن. بكل حال، بعثة صندوق النقد التي برمجت التفاوض في جولته الخامسة طلبت التريث حتى اجتماع لمجلس إدارة الصندوق وتقييم عن إحدى لجان الاختصاص للمصادقة على الحيثيات. وهي مسألة ليس سراً أنها بالرغم من كل تجهيزات الإصلاح الهيكلي الأردنية والالتزام بوصفات صندوق النقد، ليست مضمونة. والسبب المرجح الذي دفع رئيس الوزراء بشر الخصاونة للإعلان عن أن الخزينة لا تملك ترف دعم المحروقات بعد الآن، هو علم الحكومة وكبار المسؤولين في مجلس النواب وفي غيره من المؤسسات بأن صندوق النقد ولضمان موقف إيجابي من جهته لمساعدة الأردن وحصوله على التمويل، يضع شرطاً له علاقة أيضاً بـ “فاتورة المياه”.
قرار غير شعبي بامتياز
ويريد من الحكومة الأردنية بيع المياه للمواطنين بسعر تكلفتها الأصلية، وهو قرار غير شعبي بامتياز، ومن المتوقع أن الحكومة الحالية إذا بقيت والحكومة اللاحقة، مضطرتان للالتزام به لأغراض الحصول على تسهيلات ائتمانية دولية.
ومن ثم، يمكن تفسير تشدد الحكومة التي انتقدت بقسوة وغلاظة وخشونة هنا في مسألة فارق أسعار بسيطة على فاتورة المحروقات، تبين أن السبب على الأرجح هنا هو علم الحكومة آنفاً بأن التساهل في مسألة رفع أسعار المحروقات يعني التساهل لاحقاً في الملف الأصعب، وهو أسعار المياه، وقد تلحقه أسعار الكهرباء، وتلك الحسابات يعلم بها عدد محدود جداً من كبار المسؤولين الماليين في الدولة.
ومن الواضح أن سعي النواب للحصول على مساحة خاصة من ضرب الأوتار الحساسة شعبوياً ضد الحكومة، أحبط التكتيك برمته، وقد يؤدي إلى تصعيب مهمة التفاوض مع صندوق النقد الدولي لاحقاً، ويؤدي أيضاً إلى خلط الأوراق وإعادة الحكومة والدولة إلى سؤال ينطوي على مفارقة تم التخطيط سنوات طويلة لتجاوزه، وهو الجلوس في موقع الازدواجية الفتاكة ما بين إرضاء صندوق النقد أو إرضاء المواطن الأردني. وهو سؤال سعت الحكومة لتجاهله في الواقع، وتحملت مسؤولياتها، لكن لم يسعفها؛ لا انسجام بقية المؤسسات مع خطتها ولا التوجيهات العليا التي وصلت إليها، ولا حتى رغبة بعض النواب بإدارة استعراض شعبوي، مما ترك ليس الحكومة فقط خالية الوفاض ومكشوفة الظهر سياسياً ومالياً الآن، بل ترك البلاد برمتها والدولة تحت ضغط كل تلك التواقيت والجرعات الزائدة عن طبيعتها والاستحقاقات والتداعيات الحساسة.