قصة ولادة «قانون غاضب» في الأردن: تفريط في «الاحتراف» وريادة في «القمع الإلكتروني»
عمان – «القدس العربي» : أغلب التقدير أن خلايا العمل البيروقراطي التي انشغلت بإعداد النسخة الحالية من قانون الجرائم الإلكترونية الجديد في الأردن لم تنشغل بطريقة أو بأخرى بطرح تساؤلات فنية لها صلة بالتأثير المحتمل لهذا القانون على مسيرتي ووثيقتي تحديث المنظومة السياسية والتمكين الاقتصادي. وأغلب التقدير أن تلك الخلايا التي أنجزت طبخة غريبة أرهقت البرلمان والشارع معاً كان مسارا التحديث والتمكين آخر همومها تحت ضغط الهوس بتسجيل ثلاثة أهداف بضربة واحدة بالتزامن على سكة التشبيك التشريعي تحديداً.
خطط المعنيون هنا جيداً للهدف الأول، وهو الاستجابة إلى أقصى مدى ممكن لملاحظات مرجعية وأخرى تتذمر وتشتكي من نتائج وتداعيات سيطرة منصات التواصل على كل النقاش العام في البلاد، حيث الشكوى والتضجر والتذمر بالأطنان هنا.
لذا، الاستجابة كانت تحت الضغط، لكنها في الواقع ذهبت لما هو أبعد من الملاحظة وافتقدت للنص الفني المحترف، وانتهت بتفجير أزمة مجتمعية سيعاني منها الجميع لاحقاً، كما يرجح السياسي الدكتور ممدوح العبادي وهو يتحدث مع “القدس العربي”.
الهدف الثاني كان إظهار الحكومة الأردنية في موقع ريادي وهي تفتي وتناور وتحاور وتقترح على مجلس وزراء الإعلام العرب، بمعنى تقديم الأدلة والبراهين على أن عمان ديناميكية ومتسارعة ولا تقف عند حدود تقديم مبادرة للسيطرة على الشبكة الرقمية أكثر على المستوى العربي، بل تندفع باتجاه تقمص حالة تسيطر فيها على الإيقاع المنصاتي الوطني قبل قيادة مبادرات عربية أو إقليمية.
وهذا العنصر شكل ضغطاً طبعاً من حيث التوقيت والشكل والطهي المحترف لنصوص القانون الجديد.
في قصة ولادة قانون “غاضب ” يبرز العنصر الثالث في حلقات الضغط على الخلية إياها، فطبقة واسعة من المسؤولين والموظفين الكبار بدأت تهدر وقتاً كثيراً بمتابعة ما يكتب عنها عبر تقنيات التواصل والحسابات الوهمية من الخارج، تنهمر كالمطر من الدول الصديقة قبل غيرها.
وثمة فوضى يشعر الأمني الأردني مع البيروقراطي بضرورة معالجتها بعدما تم تسجيل ما يقارب 220 ألف شكوى إلكترونية دفعة واحدة جراء تلك الفوضى في عهد قانون الجرائم الإلكترونية السابق.
عملياً، تحت ضغط تلك الاعتبارات الثلاثة فقط، صيغت سيناريوهات كتابة وإعداد ثم تسويق وعبور القانون المعدل للجرائم الإلكترونية.
وفي الأثناء سقطت 3 اعتبارات أخرى في غاية الأهمية، أولها وفقاً لتنميط وتحليل الحقوقي النشط والبارز عاصم العمري، سمعة مراجعات الأردن الدولة في ملفات الحريات والحقوق والإصلاح السياسي مع المجتمع الدولي.
وثانيها انعكاس هذه النصوص المطاطة المرنة الغليظة على المواطن الأردني العادي البسيط الذي يرى في منصات التواصل متنفسه الوحيد.
سقط في الاعتبار-وهو ما ألمح له الأمريكيون قبل غيرهم- العنصر الثالث الأكثر أهمية، وهو تأثير القانون الجديد على الحياة الحزبية، ثم مسار تحديث المنظومة السياسية ثم رؤية التمكين الاقتصادي، ولاحقاً تفاعلات النظام القانوني الجديد الذي يحمل اسم البيئة الاستثمارية.
حيثيات قصة ولادة قانون غاضب تدل ببساطة اليوم على الانشغال بثلاث قضايا قد يعتبرها البعض مفصلية وأساسية، والبعض الآخر عميقة وجذرية على حساب ثلاث قضايا أخرى ليست من الصنف الذي يمكن الاختلاف على أهميتها ومع مناخ التأثر بأزمة الأدوات ورغبة الحكومة في سلق التشريع بسرعة وضمن بيئة عموماً تخلو من الإبداع والألمعية.
وفي إطار تم خلاله تجاهل خبراء تشريعات الإعلام وبيوت الخبرة في السياق، ولد القانون الجنين الجديد بسمعة سيئة شعبياً، والآن دولياً؛ لأن المراجعات في الطريق، ولأن الأردن -وفقاً للعمري- لم يعد يستطيع التحدث دوماً بلغة الحريات والحقوق بلهجتين مع العالم.
تلك وصفة أو خلطة طهي طبيعي جداً أن ينتج عنها أخطاء وسوء تقدير زمني أحياناً، لكن محصلة العملية أن الاندفاع باتجاه تسجيل الأهداف الصغيرة الثلاثة دفعة واحدة وبنفس الوقت وفي سياق سيناريو يتذاكى، قد يضع الدولة برمتها وليس الحكومة فقط أمام مقاربة الاختيار بين خيارين استراتيجيين وبدون مبرر عملياً، فالدولة كانت منشغلة للتو بنفض الغبار عن ملفات العمل الحزبي وترويج منظومة التحديث الجديدة والاستعداد للتمكين الاقتصادي.
كل تلك الاعتبارات يرى قادة الاعتراض على القانون الجديد أنها مقدمة للمساس ليس بالتمكين والتحديث فقط، ولكن بمجمل خطاب استثمار الشباب، والأهم عشية الانتخابات البرلمانية المقبلة، التي وصفت مراراً وتكراراً بأنها مهمة للغاية. لذلك، يتوقع بأن عبور القانون الجديد لن يؤسس لحالة ينتهي فيها الجدل على القضايا والملفات التي يطرحها القانون. بل هو عبور سيشكل بعد الآن وخلال الأشهر والأسابيع القادمة مادة أساسية للحديث عن الغرق والاسترسال في ديمقراطية الخطاب والشكل والمسرح على حساب الديمقراطية الحقيقية والعميقة، وما حصل من مسرحة عملية عبور وفرض قانون جديد سيصبح بالتأكيد مادة لتغذية ما سمّاه المخضرم طاهر المصري يوماً بغياب اليقين ولاحقاً التشكيك بمجمل مسارات التحديث.