هل قال الأردن كلمته في «التموقع الجيوسياسي» بين «محورين»؟
عندما تدحرجت «ليلة الشظايا» الإيرانية
عمان ـ «القدس العربي»: عدد الأسئلة التي تزاحمت فجأة في عمق المجتمع الأردني لا يقل عملياً عن عدد «الأجسام الطائرة» كما تسميها الحكومة، التي ظهرت في سماء المملكة فجر الاثنين وبعد منتصف الأحد عند التصدي لها بأنظمة الدفاع الجوي المتطورة في سياق مشهد دراماتيكي إقليمي متدحرج ارتبط بالجولة التي أنجزت في المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل.
زحام تساؤلات الأردنيين خصوصاً مع غياب حالة التمهيد إعلامياً للرأي العام وشرح ما جرى ويجري، وصل إلى مستويات عميقة وحرجة إلى حد ملموس، فقد ظهرت وقائع وحقائق سياسية وتكرست بعض القناعات، فيما بدت المظاهر السيادية للدولة الأردنية قادرة على إدارة مصالح البلاد في لحظات الاشتباك المعقدة. وتجنباً لنقاش وجدل وهتافات شعبوية مؤكدة قادمة لا محالة، وبعد ليلة المنازلة التي شهدتها سماء المنطقة والأردن، عقد مجلس الوزراء اجتماعاً مبكراً جداً تحدث فيه عن بعض وليس كل ما جرى.
«حماية الأجواء الأردنية»
وقد يكون أهم تلميح مرتبط بالشأن المحلي ورد في البيان الوزاري الذي أعقب الاجتماع، وذلك الذي حاول تذكير الأردنيين بأن سلطات بلادهم ملتزمة تماماً حماية الأجواء الأردنية من أي أجسام طائرة ومن أي جهة، تجنباً لسقوطها وحرصاً على أرواح ومصالح الأردنيين. قد تبدو تلك إشارة مغرية تشرح التموقع الأردني في حرب الصواريخ والمسيرات التي شنتها إيران.
لكن الأهم ولأن المواجهة الآن مفتوحة الاحتمالات، هو أن بيان مجلس الوزراء الأردني حدد عملياً سقف الإجابة على واحد من الأسئلة الشعبوية الملحة عندما طالب الشعب ضمناً بالتقاط المعلومات فقط من مصادرها الرسمية وعدم تداول الشائعات والتسريبات، في إشارة إلى أن الحكومة تريد ضبط إعدادات الأجوبة لدى الرأي العام بدلاً من الغرق في الاسترسال بطرح الأسئلة.
ذلك ضبط تطلب لغة تلوح بوضوح بأن الحكومة لن تتردد في مواجهة من يروجون الشائعات والتسريبات بلغة القانون، الأمر الذي يعني ببساطة بروز واحدة من الوظائف الأساسية لقانون الجرائم الإلكترونية سيئ السمعة والصيت، بدلالة أن بيان مجلس الوزراء ألمح في إحدى العبارات إلى منصات التواصل. يعني ذلك أن الاسترسال في الأسئلة الحرجة قد تعالجه بغطاء حكومي بعد الآن تطبيقات قانون الجرائم الإلكترونية وعقوباته المغلظة. وهو عملياً ما لمّح له قبل ليلة الهجوم الإيراني على إسرائيل وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة الدكتور مهند مبيضين، رداً على ملاحظة استفسارية من «القدس العربي» وهو يشير إلى أن إجراءات ستتخذ لملاحقة من يحرض أو يشوه أو يسيء إلى السلم الاجتماعي الأردني.
«الأجسام الطائرة»
تعليق المبيضين سبق بأيام ما حصل فجر أمس في سماء الأردن، حيث مواجهة الشظايا التي سقطت بعد دور نشط لأنظمة الدفاع الجوي الأردنية في التصدي لعدد من «الأجسام الطائرة» التي حاولت اختراق الأجواء الأردنية، وفقاً لنص البيان الرسمي الذي صدر متأخراً، فيما بدا أن خطط الدفاع الجوي موضوعة وجاهزة بكامل تقنياتها، وأن أحداً في الحكومة لم يقرر أن يتحدث مع الشعب والناس عملياً قبل حصول ما حصل، ولو من باب الشرح والتوضيح أو التجهيز.
عندما تدحرجت «ليلة الشظايا» الإيرانية
لا تريد السلطات الحكومية الأردنية السماح بإساءة تفسير الموقع الأردني، فالاشتباك الجوي سهر معه الأردنيون شعبياً بابتهاج؛ لأن طهران تقصف تل أبيب، ورسمياً بقلق حتى صباح اليوم. وأظهرت الصور والنشاطات في الشارع وفي العديد من المدن الأردنية ومعها تقارير وكالات الأنباء ووسائل الإعلام بأن الجغرافيا الأردنية وسط المعركة عملياً، وبأن الرواية التي سبق أن تحدث بها لـ«القدس العربي» البرلماني الأردني المخضرم والسابق سعد هايل السرور، تحظى بالمصداقية العملية وهي نتقول إن الأردني سيسهر ليله الطويل مادام الكيان الإسرائيلي مع الأزمة السورية في الجوار.
تكميم أفواه الأردنيين في الرد والتعليق وطرح الأسئلة ليس ممكناً برأي السياسي مروان الفاعوري، خصوصاً أن العدوان الهمجي الإسرائيلي متواصل على قطاع غزة، ومخاطر تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن والأردنيين لا تزال ماثلة للعيان، بما في ذلك التهجير. عملياً، منذ يوم 7 أكتوبر، يطالب طيف واسع من السياسيين الأردنيين بمن فيهم رؤساء وزراء سابقون، بالجملة، بلادهم وحكومتها بعناصر تنويع بعد الآن في التحالفات والعلاقات والاصطفافات الدولية.
ليس سراً ـ وهذا ما يلاحظه الفاعوري – أن الشارع الأردني وحتى الكثير من نخبه طالبوا حكومة بلادهم وعلاقات مع المقاومة الفلسطينية وتقارب أفضل مع إيران في إطار الجاهزية لمخاطر برامج اليمين الإسرائيلي على المملكة.
الأردن في «المحور الأمريكي»
وليس سراً أن عمان اتخذت موقفاً صلباً وتفاعلياً من العدوان الإسرائيلي على غزة، لكنها احتجبت تماماً عندما تعلق الأمر بعلاقات مع إيران أو حتى مع المقاومة الفلسطينية أو مع المحور برمته.
تلك كانت المعادلة حتى فجر أمس، حيث أعاد الهجوم الإيراني الآن رسم الحالة التشخيصية سياسياً للتموقع الأردني في اتجاه رسالة واضحة تقول إن الأردن في الموقف السياسي والإقليمي لا يزال وقد يبقى في المحور الأمريكي.
ولا ينبغي لأحد لا في الداخل ولا الخارج أصلاً، أن يطالبه بالتقارب مع المحور الإيراني، على حد تعبير السياسي مروان المعشر، والمحور الإيراني ينظر له أيضاً في عمان الرسمية وحتى في كثير من الأوساط الشعبية بما فيها «الإخوانية» بالمناسبة بأنه طامع وطامح، ولا يختلف في الحسابات عن اليمين الإسرائيلي، مع فارق بسيط في ميزان المصالح، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأهم، تتكفل بالحماية من الجانبين.
في كل حال، وفي الخلاصة الجيوسياسية، قال الأردن الرسمي كلمته عندما اندلعت مواجهة في التموقع الاستراتيجي. وقد ظهر ذلك في ليلة الشظايا التي سقط بعضها جراء النشاط المفرط في التصدي للمسيرات والصواريخ في بعض شوارع العاصمة عمان، وحتى في بقية المدن، مثل الكرك وإربد وحواف مدينة العقبة. لكن قول الأردن الرسمي لكلمته الحاسمة ينبغي ألا يكون حمال أوجه. والفكرة أن الدفاع الجوي النشط اجتهد في حماية الأجواء الأردنية وليس في الدفاع عن إسرائيل، كما بدأت بعض الأصوات والمنابر تروج.
وهي حالة تموقعية تعني أو تعني لاحقاً ليس فقط تصنيفاً إيرانياً أكثر وضوحاً للأردن، بل توفير مساحة مناورة تسمح للمملكة بأن تقول لا مستقبلاً لاستخدام أراضيها أو أجوائها في أي عملية عسكرية إسرائيلية أو أمريكية ضد إيران، إن استطاعت طبعاً لذلك سبيلاً. بين محورين، بدا موقف الأردن العملياتي في ليلة الشظايا – كما توقعت «القدس العربي» في تقرير سابق لها – واضحاً وصريحاً ومباشراً. وأول طرف ينبغي له أن يفهم ذلك هو إسرائيل الآن، فيما المكاسب والخسائر بمسارها الاقتصادي والسياسي والأمني بعد ليلة الشظايا المشهودة يمكن جمعها أو إعادة تجميعها، ثم إحصاؤها لاحقاً.