وزراء الأردن «حائرون ومبعثرون» ومشاريع «المئوية» في خطر
عمان – «القدس العربي»: مسألتان لا يمكن إسقاطهما من السياق والنقاش العام في الحالة الأردنية بعد الشرخ الذي أسس له القانون الجديد للجرائم الإلكترونية منتجاً عشرات الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات في مرحلة تمكين التحديث والاقتصاد ضمن مسار المئوية الثانية للدولة.
المسألة الأولى تظهر حجم ومستوى ومنسوب الارتباك الذي التهم شرائح نخبوية كبيرة في المجتمع جراء القانون الجديد، على رأسها لا بل أهمها شريحة المستثمرين في الرؤية التحديثية الجديدة، حيث قلق ملموس ومشاعر متناقضة وأسئلة فنية من طراز: “كيف نمضي إلى الأمام في ظل قيود التعبير الجديدة”؟
تجاوز الارتباك
المسألة الثانية تتجاوز الارتباك وتؤشر على حالة فصام سياسية على المستوى المؤسساتي، برزت وبوضوح ويمكن رصدها من ردود فعل وتفاعلات الطاقم الوزاري وبعض أعضاء مجلس الأعيان أيضاً، إضافة إلى قلق أو عدم فهم أو غموض رموز الحالة الحزبية الجديدة، التي اضطرت حتى في جبهة أحزاب الوسط والموالاة إلى إظهار مسافة ما صغرت أم كبرت وفق الظروف من مشروع القانون الجديد وخط الحكومة بخصوصه؛ لأنه باختصار مشروع مرتبط بالملف السياسي، وإن كان لا ينطوي أو لا يمكن وصفه -كما قال عضو مجلس الأعيان مصطفى الحمارنة- بـ “الفعل السياسي” .
الارتباك النخبوي سيد الموقف، وقد برز أنه حتى الطاقم الوزاري في الحكومة لا توجد لديه وصفة مدروسة ومفصلة وعميقة للإجابة على استحقاقات اليوم التالي بعد تدشين تطبيقات اليوم الجديد. شعر المراقبون بأن الوزراء غير المعنيين بالملف السياسي ولا بملف الإعلام، ظهروا مع جرعة ارتباك في مناوراتهم العلنية. ولامس الرجل الثاني في الحكومة وخبيرها البيروقراطي العتيق توفيق كريشان، مخاوف الجميع من تطبيقات القانون عندما اضطر في مناسبة اجتماعية في الواقع وليست سياسية للرد على مداخلة لاذعة للمخضرم طاهر المصري، قائلاً إن القانون الجديد سيطبق على المسيء فقط.
هنا يمكن بوضوح ملاحظة أن مداعبة المصري في جاهة خطوبة كانت قاسية، فالرجل وهو يخطب عروساً، وقف وأعلن أنه سيقلل الكلام حتى لا يلاحقه قانون الجرائم الإلكترونية الجديد. وإزاء رسالة حادة من شخصية مثل المصري، وجد كريشان نفسه لا يملك إلا التعليق؛ لأن صمته بالمقابل لا يناسب موقعه في هرم مجلس الوزراء، فقال شيئاً عن تطبيق نصوص القانون الجديد على المسيئين فقط.
عملياً، لا آلية قانونية في الكون يمكنها الالتزام بذلك المعيار الذي طرحه علناً الوزير كريشان، حيث التشريعات والقوانين تسن كما أوضح الناشط الحقوق عاصم العمري من أجل الجميع، وحيث رد الوزير السابق الدكتور صبري اربيحات ضمناً في مقال له نشرته صحيفة “عمون” الإلكترونية على مقولة كريشان، مفترضاً أن وضع نصوص قانونية تسمح بما سمّاه التراشق بالقضايا وصفة مبتكرة قد ترهق الجهات القضائية والأمنية التي لا يوجد عندها لا الموارد ولا الوقت.
تحدث الدكتور إربيحات عملياً كعالم اجتماع، لكن عضو مجلس الأعيان والخبير الناشط جميل النمري، كان قد عبر في نقاش مع “القدس العربي” عن مخاوفه الشخصية من كيفية تطبيق بنود القانون الجديد، فيما كان العمري يقول لـ “القدس العربي” أيضاً إن هذا التشريع سيثير الفوضى في المجتمع.
التقاط المفارقة قد لا يقف عند حدود مساجلة المصري كريشان؛ فوزراء الاختصاص المباشر لا يتحدثون علناً بالقانون الجديد، والفكرة التي طرحها في برنامج تلفزيوني محلي وزير تكنولوجيا الاتصالات والريادة أحمد الهناندة، تعني بكل وضوح سياسياً وتقنياً أن الحكومة لا تملك إجابة على بعض التساؤلات التقنية المختصة بتطبيق قانونها الجديد.
الوزير الهناندة في الواقع سجل، سياسياً وإعلامياً، مفارقة من الوزن الثقيل عندما كان اقتراحه الوحيد للإجابة عن سؤال تقني، هو شطب “البوستات” من صفحات توتير. والمذيع اللامع محمد الخالدي في قناة رؤيا التلفزيونية، كان يسأل وزير الريادة والتكنولوجيا: “معاليكم، لا أستطيع شطب التعليقات عن توتير… ماذا يفعل المواطن؟”. وأجاب وزير الشبكة الرقمية المختص بكل بساطة وتلقائية بصيغة تطلب من المذيع “شطب البوست نفسه عن شبكة تويتر”.
إجابة يتيمة
تظهر تلك الإجابة بأنها يتيمة على طاولة الحكومة عندما يتعلق الأمر بإصرار القانون على تحميل صاحب الصفحة التواصلية مسؤولية التعليقات التي تنشر على صفحته. والحكومة تفضل عملياً في هكذا حالة إغلاق الأردنيين لصفحاتهم، لا بل إن إجابة الوزير تقودهم إلى تلك الخلاصة.
تقنياً وتشريعياً وسياسياً، أظهرت العبارة الشاردة للوزير الهناندة عدم جاهزية الحكومة تقنياً؛ لأن أحد الخبراء مثلاً اقترح تحديد سقف زمني لبقاء التعليق المسيء أو المخالف للقانون، وإذا كانت الحكومة مصرة على الردع يصبح صاحب الحساب الإلكتروني بعده في نطاق مسؤولية القانون.
في كل حال، فوضى التراشق -كما يسميها إربيحات- أو صراعات الأزمة المجتمعية، ستغذيها الهوامش والتساؤلات التقنية الخالية من الإجابات.
وما يبدو عليه الأمر في جزئية تقدير الكلفة الناتجة عن تطبيق القانون مستقبلاً هو أن الحكومة اهتمت فقط بالأسباب الموجبة وأغفلت النتائج والتداعيات، فيما يذكر العمري الجميع بأن 220 ألف شكوى قضائية إلكترونية تم تسجيلها بموجب القانون القديم قبل فرد مساحة واسعة بالنصوص الجديدة أمام كل أنماط الابتزاز الإلكتروني المسيس.
سأل العمري وغيره: من أين سناتي بالكوادر القضائية المتفرغة لموجة رفع الشكاوى والقضايا الوشيكة؟ وما هو عدد الكوادر المطلوبة لإنفاذ القانون سواء في المراكز الأمنية أو في أجهزة الادعاء او حتى في المحاكم؟
الحكومة لا تجيب عن مثل هذه الملاحظات لأن هدفها الردع والسيطرة، لكن كلفة ذلك وعلى حساب من وماذا؟ لم تناقش بعد. في المقابل، ارتبك أعضاء مجلس الأعيان، وبرزت ظاهرة انتقاد القانون من بعضهم، أو من شريحة الوزراء السابقين، لا بل ظهر وزراء سابقون في قيادة احتجاجات في الشارع لأول مرة، كما شعرت الأحزاب السياسية وتحديداً الوسطية في حالة من التيه والانفصام، دفع بعضها للصمت التام، كما صمتت النقابات المهنية، ثم دفع بعضها الآخر للاختباء وراء بيانات تمسك العصا من المنتصف بعيداً عن اشتباكات الاحتجاجات أو الترويج لقانون الحكومة الجديد.
وفي الأثناء، فإن من ابتلع في حنجرته سكين الأمر الواقع كما يبدو، هي تلك الشريحة الوفية المخلصة لمشروع التحديث السياسي، الذي تبخرت الآمال حوله وبخصوصه عندما تم الإسراع بإقرار قانون أقل وصف له هو إنتاج أزمة مجتمعية وبعثرة طروحات حتى الوزراء.