الأردن يحتاج إلى «مؤمنين» لا «مخبرين»
الأنيميا في جسد النخبة السياسية الأردنية يمكن أن تتفاقم قريبا وتؤدي إلى تفويت الفرصة على «حالة تاريخية» هرم الشارع وهو ينتظرها من خلال توافق أو توحد نادر بين الحكم والناس، بين الدولة ورعاياها، بين الحاكم والمحكوم، وبين الأجهزة والمواطنين، عنوانها المركزي «وقفة وطنية تاريخية» متفق عليها ضد «موجة تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن».
تلك الأنيميا وملامحها فقر في الثقافة وبؤس في الوعي وافتقاد للخبرة العميقة إضافة لارتجال وعشوائية وأزمة أدوات وحلقات وسيطة غير قادرة على المبادرة أو التفكير العميق وتبقى في ظل القرار والمؤسسات بدون مناورات ذكية من أي نوع وتؤمن بمبدأ «السلامة في النجاة» أو قاعدة «سكن..تسلم».
لا يحتاج الشارع الأردني فقط للمزيد من الصبر والثقة والإيمان بمؤسساته بل تحتاج رموز تلك المؤسسات أيضا وفي هذه المرحلة الصعبة الحساسة إلى تجاوز قاعدة «المخبر» باتجاه «المؤمن» وإلى تجنب تكديس البائسين على حساب المهنيين وأصحاب الخبرة.
وتحتاج إلى تجاوز سريع يرتقي إلى مستوى التحديات لأزمة الأدوات والأهم أن رموز الدولة والقرار اليوم تحتاج قبل كل شيء للجرأة والشجاعة الوطنية المسؤولة في أولا- الإقرار بالأخطاء التراكمية وتوقف ثقافة النكران.
وثانيا- القدرة على الاشتباك الإيجابي حتى لا تتحول البلاد برمتها مع التجربة إلى قاعدة الإحباط الأولى حيث «رغبة في الإصلاح وعدم توفر القدرة الحقيقية» بسبب أزمة الأدوات التي تحتاج بدروها لمقاربة مختلفة وجريئة وصادقة تعيد إنتاج المشهد قبل أي وكل شيء آخر حتى ينفذ الأردني ودولته ومؤسسته ومشروعه معا من خرم الإبرة المقبل.
لا شكوك في المقابل بأن الدولة تواجه خيارات استراتيجية عميقة الآن بعد الاشتباك مع ما يسمى بـ «صفقة القرن» وفي ظل الانقلاب الإسرائيلي المسموم المتواصل على المملكة ودورها وتاريخيا وملامحها حيث يتصور اليمين الإسرائيلي اليوم بأنه في عصره الذهبي تماما وفي مرحلة يستطيع فيها ابتلاع الأردن وإعادة إنتاجه مزنرا بدعم مربك من طاقم جاهل في عملية السلام يديره صهر تاجر العقارات الذي أصبح رئيسا للإدارة الأمريكية.
طبعا ذلك لن يحصل فالأردن هو الأردن وفلسطين تبقى فلسطين وإسرائيل مشروع لا يمكن إنجازه.
قال الأردنيون كلمة واحدة بشان ترتيبات صفقة القرن.
قال الأردن العبارة نفسها قيادة وشعبا.
يتوفر الآن إجماع غير مسبوق بين كل مكونات الدولة والمجتمع في الأردن بعنوان الرفض المطلق للوطن البديل والمساس بالوصاية الهاشمية على القدس وتغيير واقعها وضد أي تورط أردني من أي نوع في ملف الضفة الغربية.
لا تتاح رغم سلسلة الأخطاء والمماحكات في الحالة السياسية والإعلامية الأردنية ورغم حالة الفوضى الحكومية والسياسية مثل هذه اللحظات التاريخية في الإجماع الوطني فالأردنيون اليوم موحدون تماما خلف مؤسساتهم وكلمة قيادتهم.
وما ينبغي أن يحصل ويتاح فورا استثمار ذكي وخلاق ومبدع فيه الكثير من الجدية والعمق في مثل هذه اللحظة.
نحن كأردنيين بحاجة ماسة اليوم لمثل هذا الاستثمار وبدون تردد لأن اللحظة تاريخية ومفصلية ونادرة تماما، وإذا ما أجادت دوائر القرار استغلالها – ونحن ندعوها لذلك فورا- ستذوب الكثير من الاحتقانات الداخلية وسيعود الأردني ليرى في دولته تعبيرا عن هويته السياسية وقد يؤدي الاسترسال في تنظيم وإدارة «التوافق» إلى إزالة الكثير من التجاذبات والخلافات التي أنهكت مؤخرا الدولة والناس معا.
مؤسف جدا جدا أن نرصد في الواقع السياسي بعض المسؤولين المغامرين العاملين في الاتجاه المعاكس تماما لمنطوق ومضمون التوافق المشار إليه.
مؤسف فعلا أن يسعى بعض الوزراء والمسؤولين إلى الاستزادة من علبة كلاسيكية اعتراها الصدأ ولا تصلح لإدارة المشهد الحالي تحت ذريعة هيبة الدولة أو الخشونة الأمنية أو تحت مسوغ تعقيدات وظروف المرحلة الحرجة.
تعقيدات المرحلة تتطلب مقاربة سياسية وأمنية أكثر ذكاء يستحقها الشعب الأردني الصابر المكافح وجدير بها النظام مع الدولة.
حساسية المرحلة ينبغي أن لا تتحول لشعار مخيف يستثمر في الاتجاه المعاكس للإصلاح السياسي أو لتبرير القبضة الأمنية الشرسة أو حتى للعودة للمعلبات المحافظة التي أوصلت كل شيء في البلاد إلى الاستعصاء الحالي ودمرت الإدارة وتعملق الفساد وأصبح نافذا في ظلها.
لا يمكن بطبيعة الحال وبكل الأحوال الاستثمار في لحظة توافق وطنية تاريخية بين الحاكم والمحكوم كاللحظة الحالية بدون الإيمان المطلق بأن «الشر الإسرائيلي» والحماقات الأمريكية عناصر مستفزة لطاقة شعوب المنطقة المظلومة وعناصر لابد من تحويلها إلى عناصر وأوراق قوة بيد الشعب الأردني والشعب الفلسطيني.
ذلك سيصبح سهلا ومتاحا لو أجاد القوم بالقرار المحلي لعبة إدارة التوافق الوطني التاريخي المرحلي.
هنا لا نستطيع إلا استذكار إستراتيجية وطن باتجاهين لا ثالث لهما الأول التوقف التام عن تقديم خدمة للاحتلال الإسرائيلي ببقاء العلاقات والاتصالات جامدة ومسيسة وأمنية فقط مع الشعب الفلسطيني بكل مؤسساته وقطاعاته.
والثاني تعزيز صمود هذا الشعب الأسطوري بصيغة تخدم «بقاء وثبات الأردن» بالتوازي طبعا مع اللعب بقواعد «أنظف» سياسيا في الداخل.