الأردن: «المصارحة ـ أولا»
الأردني لا مصلحة له بعيدا عن مصالح دولته ومؤسساته وثوابت قيادته، والدولة لا مصلحة لها إطلاقا بعيدا عن حاضنتها الشعبية

أي مراقب حريص لمسارات واتجاهات وميول الشارع الأردني هذه الأيام يدرك الحقيقة الواقعية الماثلة أمام أعين الجميع والقائلة بأن الشعب بدأ يرفض ليس إسرائيل فقط، ولكن كل ما يرتبط فيها من اتفاقيات ومعاهدات وممارسات وتراث.
يشمل ذلك طبعا ودوما الحديث عن «وهم السلام» مجددا وسلسلة تفاهمات استراتيجية تنتمي للماضي صنفت بكل قوة الآن أنها تعبير عن خطأ استراتيجي فادح، لأنها رهنت ملفات مهمة وحيوية مثل المياه والطاقة والغاز بالإسرائيليين الغدارين حيث صفة الغدر استعملها مرتين وزير الخارجية أيمن الصفدي وليس الشارع في وصف الكيان.
لابد من وضع الناس بالصورة: لماذا وصفت إسرائيل ببيان رسمي بالغدر؟ كيف وأين غدرت بنا نحن الأردنيين؟
تلك أسئلة لم يعد من الحكمة ترك الأجوبة عليها للمخيلة الشعبية في تواقيت حساسة، كل صورة السلام وإسرائيل مرتبطة في الوجدان العمومي بالمذابح والإبادة وطحن لحم الأطفال وتجويع الشعوب.
الشارع الأردني وفي كل اللهجات واللغات، لم يعد يؤمن لا بإسرائيل ولا بعملية السلام ذاتها التي تلفظ أنفاسها الأخيرة جراء قرارات الضم للضفة الغربية والسيطرة على الأغوار على أكتاف حدود الوطن الأردني.
على أقل تقدير إذا ما لجأت إسرائيل لتأجيل خطوة الضم الأكبر، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يلوح إثر عودته بعد الحصول على مباركة من كبير السحرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالضم الأصغر.
وهو السيطرة على مناطق الأغوار وضمها إضافة إلى ضم المناطق سي وبي في الضفة الغربية، وتقسيمها إلى ضفتين، الأمر الذي يشكل في كل الأحوال خطرا استراتيجيا يهدد بالتهجير.
إن الشعب الأردني لم يعد يصدق ولو كلمة واحدة في عملية السلام والتعايش. لا بل قريبا جدا إذا ما استرسل الأردنيون في مواقفهم الحالية واسترسلت إسرائيل الإجرامية الإرهابية في جرائمها ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، يمكن القول وبضمير مرتاح أن الشارع الأردني لم يعد يقبل أو يستطيع هضم أي فكرة لها علاقة حتى بالتعايش وملاعبة العدو الإسرائيلي تحت ستار اتقاء الشر.
ليس المطلوب مجازفات كبيرة ولا إعلانات حرب. لكن المطلوب مصارحة الجمهور والتحدث معه بدلا من ترك المايكروفون الذي يتحدث باسم الشعب الأردني لأصحاب اجتهادات أو أجندات.
هنا وقت الحقيقة وهنا التوقيت المناسب لمصارحة الناس والتحدث معهم بالقضية الأهم التي تشغلهم وهي التطورات على صعيد القضية الفلسطينية وما يجري على المعابر والجسور وفي منطقة الأغوار.
الأردني لا مصلحة له بعيدا عن مصالح دولته ومؤسساته وثوابت قيادته، والدولة لا مصلحة لها إطلاقا بعيدا عن حاضنتها الشعبية
المصارحة تعفي الحكومة من كلفة تضليل الرأي العام وعلينا تذكر ما قاله يوما الراحل الكبير زيد الرفاعي «وضع القيادة في الملفات الأساسية أمام خيار استراتيجي واحد جريمة».
الحاجة ملحة لمصارحات أفقية على المستوى الوطني تقول الوقائع كما هي والحقائق كما هي، حتى يصبح الشعب الأردني جاهزا لإسناد الرواية الرسمية أو السردية الوطنية في أي وقت صعب أو حرج.
لا يكفي الحديث عن تحصين الجبهة الداخلية كشعار أو يافطة أو لافتة.
التحصين يبدأ عمليا من جزئية المصالحة بمعنى التحدث عما يجري للشعب ومناقشة القضايا التي تخصه بصورة منطقية وأغلب التقدير أن المصارحة الوطنية هنا تتطلب قيادات مختلفة عن القيادات الحالية مع الاحترام للجميع على المستوى التنفيذي وعلى المستوى الحكومي والوزاري وأيضا على المستوى الإعلامي.
دفع كلفة بسيطة جراء «المصارحة» الآن أفضل بكثير من دفعها لاحقا.
الأردني لا مصلحة له بعيدا عن مصالح دولته ومؤسساته وثوابت قيادته، والدولة لا مصلحة لها إطلاقا بعيدا عن حاضنتها الشعبية التي تعتبر بمثابة الحصن الأول والمنيع ضد أي محاولات للضغط أو التأثير أو خنق الأردن وتطويقه استراتيجيا وفقا لبعض الخبراء.
المصارحة يا قوم ليست مؤذية، ولا يمكنها التسبب بالأذى لجسد الوطن وفي الحد الأدنى من كلفتها، إقرار ببعض الأخطاء في الاجتهادات وتوقيع الاتفاقيات.
وهي أخطاء يمكن للأردنيين فتح صفحة جديدة بشأنها والتعاطي معها باعتبارها من الماضي، لأنهم معنيون الآن بتصليب وتقوية المؤسسات الرسمية للدولة والموقف والخطاب الرسمي حفاظا على توازنات المصالح العامة.
لا يمكن تصليب الجبهة الداخلية بدون دعم وإسناد الموقف الرسمي لمؤسسات الدولة.
ولا يمكن فتح أي صفحة جديدة بدون مصارحات تحكي للأردنيين السردية الحقيقة عما يجري خلف الستائر والكواليس بخصوص ليس فقط مستقبلهم ولكن مستقبل القضية الفلسطينية في ضوء ما يتردد من أنباء وتسريبات عن خرائط جديدة وسايكس بيكو جديد إلى آخر تلك الأسطوانات التي قد تكون مشروخة أحيانا.
الكلفة الحقيقية قد تنتج عن تأخير المصارحة الوطنية، ومن هنا لا نتحدث عن المصالحة الوطنية فهي تحصيل حاصل في لحظات الاستثناء ولحظات الطوارئ بل عن المصارحة بمعنى فرد الأوراق والحقائق والوقائع على الطاولة وتمكين الأردنيين من قول رأيهم فيها وفي إدارة مواجهة واضح تماما أنها حتمية مع العدو الإسرائيلي.
المصارحة… حبل نجاة للجميع.