الأردن: «من أساء الأدب ضمن مكافأة»
الإشكال في السلوك الاجتماعي تحديدا وعندما يتعلق الأمر بالعنف والاعتداء على هيبة القانون لا علاقة له بالفساد المالي أو الإداري ولا بالأجندات التي تستورد من الخارج ولا يمكن تبريره تحت سطوة الموقع الجيوسياسي
من يكدس السيارات في شوارع رئيسية ويغلقها احتفالا بعرس أو بنجاح في الثانوية العامة أو حتى رغبة في العبث فقط أو غضبا من الآخر هو مواطن أردني قبل أي اعتبار آخر.
من يصر على استخدام هاتفه الخلوي أثناء قيادة السيارة خلافا لكل الأعراف والتقاليد والأخلاق والقوانين هو أيضا مواطن أردني. من تظاهر وأغلق طريقا رئيسيا دفاعا عن حق الغش في امتحان أولاده مواطن. ومن يلقي القمامة في الشارع… كذلك ومن أحرق شجرة عامة على الرصيف لأنه أخفق في الانتخابات. من يحرق كابسة النفايات وأرشيف المحكمة ويرفض الامتثال للدور أحد المواطنين.
من يبيع صوته في الانتخابات لأسوأ مرشح مواطن ومن يرفع مسدسه غضبا أو فرحا من فئة المواطنين.. كذلك من يؤذي فتاة تعبر الشارع أو يتحرش بفقير أو مسن وأيضا من يحطم غرفة عمليات في قسم الطوارئ ومن يعقر شقيقه أو يقتل شقيقته.
من يحتشدون برفقة قريب لهم تقاعد للتو من وظيفة عامة ويعتصمون أمام بوابة مصنع استثماري ويمنعون العمل فيه إلا في حال تعيين «المدير العام» منهم أيضا مواطنون لا علاقة لهم إطلاقا بكل ما يمت بصلة للاستثمار ومتطلباته.
هؤلاء دوما مواطنون أردنيون قبل أي اعتبار آخر ومخالفاتهم وسلوكياتهم ليست مسؤولة عنها الدولة بالكامل ولا يمكن توجيه اللوم للمؤسسات بسببها.
الإشكال في السلوك الاجتماعي تحديدا وعندما يتعلق الأمر بالعنف والاعتداء على هيبة القانون لا علاقة له بالفساد المالي أو الإداري ولا بالأجندات التي تستورد من الخارج ولا يمكن تبريره تحت سطوة الموقع الجيوسياسي أو تحت ستار الصراع مع إسرائيل.
مسؤولية الدولة والقرار أيضا ليست من الحكمة تجاهلها فأي تعمق اجتماعي في التحليل سيظهر مثلا بأن عدد الجامعات في البلاد أكبر بكثير مما ينبغي وأيضا عدد السيارات وبأن آلاف الطلاب الصغار لا يخضعون لأي نمط من التربية الوطنية أو لأي سياق علمي له علاقة بتهذيب السلوك حيث لا ملاعب ولا حدائق ولا مسارح وحيث انتقائية في تطبيق هيبة القانون تدفع البسيط دوما إلى البحث عن ملاذ فيجده في الحي أو القبيلة أو الجهة أو الشلة.
الجميع مسؤول لكن الإخفاق الأكبر يتمثل في عدم القدرة على تحديد من مسؤول عن ماذا بحيث تخلط الاعتبارات والأوراق.
عمليا ثمة سلوكيات شعبية وإنسانية لا يمكن تعلمها بالمدارس ولا حقنها في أدمغة الشباب والمراهقين ولا يمكن أن تتصدى الدولة لتدريب الناس عليها فتلك مسائل في واجب بنية المجتمع والتواطؤ الاجتماعي مع الخطأ قبل أي اعتبار آخر اليوم وثقافة الانتماء للقانون ينبغي أن تتأصل وتتجذر في اتجاهين على مستوى إدارة الدولة ومستوى الناس.
مسؤولية الدولة وواجبها أن توفر منظومة تشريعات وقوانين لا توضع في الأرشيف أو المتحف أو ترمى في المستودعات بل تدخل حيز النفاذ وعلى أساس عقاب لكل خطأ فمن «أمن العقوبة أساء الأدب».. تلك كانت ولازالت أول لبنة في مدماك جدار تمتين وصلابة المجتمع لكنها تتحول اليوم إلى قاعدة معاكسة فمن يسيء الأدب بإمكانه الافلات من أي عقوبة.
واجبات الدولة وأصحاب القرار واضحة وفي الوقت الذي لا تقوم فيه حلقات حكومية ورسمية بواجبها يصبح الانتقاد انتقائيا وغير منتج إذا لم يتواز مع الضغط على المجتمع عبر الوحدات الاجتماعية الصغيرة لكي تترسم الواجبات على أساس واضحة ومحددة.
أي كلام خارج مثل هذا السياق تغميس خارج الصحن وحوار طرشان لن يؤدي إلى نتيجة لا في تشخيص الحالة الغريبة التي تستوطن بنية المجتمع اليوم ولا في تحديد المعالجات والمقاربات المضادة.
الحديث عن الفساد والترهل وغياب الاصلاح السياسي والتمثيل المؤسساتي المنصف مهم وضروري لكن تأثيره غير مضمون عندما يتواطأ المتحدث هنا مع السلوكيات التي استقرت في المجتمع وأفسدت ذائقته واتجاه الإنسان في الوقت الذي تتراجع الى حد كبير فيه مستويات الخدمات والعلاقات بين الأفراد.
كانت الدولة الأردنية مدرسة حقيقية في البيروقراط وتشكلت نخبة من الخبراء من أبناء الأردنيين الشرفاء هي التي أسست الوطن الحالي لكن عندما يتعلق الأمر بالأبناء والأحفاد تكاد التجربة تفلت من أولادها وتضيع أو تهدر. لا يكفي أن نطالب الدولة وأصحاب القرار بالتحرك والاصلاح والتغيير.
وعلى المجتمع اليوم أن يبدأ بإصلاح نفسه أيضا ويمنح القيم الايجابية النبيلة فرصة الصمود والبقاء والاستمرار ويساهم في تنمية العقل والإنسان حتى تجبر الدولة على تنمية وتطوير الأداء والمؤسسات.
مرة أخيرة لا يمكن توجيه اللوم للدولة ولا لنظام الانتخاب مثلا لتبرير قرار مواطن ما بيع صوته بـ 20 دينارا في انتخابات عامة.. تلك مسألة لها علاقة أيضا بالمجتمع والفرد والتربية والاصلاح الحقيقي يبدأ من عندها قبل اي اعتبار آخر.
المجتمع يتوجب عليه أن يردع أولاده في السلوكيات الشائنة.. هذا واجب وطني اليوم يحتم علينا العودة مجددا للمطالبة بهيبة القانون ودولة المؤسسات.