طرح أمامي شاب أردني يدرس للدكتوراة في عاصمة غربية سلسلة من التساؤلات المحيرة عن البلد وأحوالها ومشاكلها.
لا يفهم محدثي الشاب المتحمس الكثير من الألغاز في كيفية إدارة الأمور في الإدارة وعلى مستوى الحكومة.
السؤال الاهم برأيي وتقديري: نحن شعب متعلم وصبور ولدينا انتخابات ونظامنا معتدل ومتسامح ودولتنا تمثلنا… باختصار «ليش مش زابطة معنا»؟.
«زابطة» بالمناسبة هي من المفردات الدارجة الاكثر تداولاً في الشارع الأردني وأصلها لمن لا يعرف من «ضبط الامور» ويتم تداول هذه الكلمة بمناسبة وبدونها وسط إحساس عام يتراكم بأن الأمور «لا تسير في الاتجاه الصحيح».
مؤخراً فوجئت الحكومة بمؤسسة بحثية اقتصادية تعلن استطلاعا يقول فيه المستثمرون إن أمورهم لا تسير في الاتجاه الصحيح رغم أن الحكومة تنام وتستيقظ وتتحدث عن الاستثمار والقيادة منشغلة بها والناس تتحمس وهي تتحدث عن شغف كبير بحضور أي استثمار.
كيف يمكن ضبط أو «تزبيط» أمور الاستثمار في وطن، المواطن فيه أعقل من نخبه… الشارع أكثر حكمة من الحكومة… المجتمع حريص ومسؤول أكثر من المسؤولين، وطبعا ودوما نحن لا نعمم لكن في النتيجة الكل حائر والجميع يطرح التساؤلات التي سمعتها على مقهى في بودابست من شاب أردني يتحرق وهو يحاول تقديم أي خدمة لوطنه.
ماكينة الشفافية والتحقيق بالفساد المفترض والحقيقي تخضع منذ سنوات الأخضر واليابس وتمنع المسؤولين من اتخاذ قرارات والعقوبات بالجملة قبل المحاكمة خصوصا في مجتمع أفقي مهووس بمنصات التواصل لا يدقق بالتفاصيل ويروّج للشبهات ويتولى نيابة عن الخصوم والأعداء «تشويه كل شيء».
ابرياء ومشتبه بهم ورجالات دولة ووزراء حاليون وسابقون خضعوا للتحقيق تحت ضغط الرأي العام او التدقيق غير المنهي في الملفات واحتاج الأمر بحالات أعرفها لسنوات حتى يتم تبييض صفحة شاهد أو شخص استدعي للتحقيق وسط حلقات النميمة والاستغابة وعدم التحقق خصوصا وان الاستدعاءات تنشر أحياناً أمام الملأ ويتولى التواصل والتبهير والإضافة والنقصان.
وصل الأمر فعلاً إلى حد إصرار المستوى البيروقراطي على عدم توقيع أي قرار خوفا من تحقيقات الاشتباه التي تعاقب الموظف أو صاحب القرار على الاشتباه فقط وتحرقه اجتماعيا وعائليا بمجرد الاستدعاء وطرح الاسئلة وقبل مرحلة الاتهام الرسمي ومن دون ترك العدالة تأخذ مجراها.
تلك طبعا عقوبة قبل الاتهام خارج النظام القانوني ومسألة تعيق استثمارات وقرارات ومشاريع الآن وصاحب القرار يعرف ذلك بالضرورة.
طبعاً أي اقتراح يتحدث عن ترك التحقيق مع الفساد بذريعة الحفاظ على السمعة ينتمي إلى عائلة نشكّك في نزاهتها ولا تتحرك باتجاهات منتجة وطنيا وينطوي على بوصلة مريبة إلى حد بعيد.
والمطلوب مقاربة لا تتهم الناس جزافاً ولا تسمح بالكيدية ولا تنتهي بعقوبات مسبقة قبل ثبوت أي تهمة وتمتنع عن التعاطي مع الإعلام وتحرص على سمعة الناس لأن كبار الفاسدين يكسبون في الواقع ويدفع الثمن أحياناً صغار المتهمين بالفساد.
بكل حال لا بد من مقاربة منهجية وقانونية تترك للقضاء النزيه والمستقل صلاحية التدقيق والاتهام ولاحقاً المحاكمة ضمن رؤية تتعامل مع نصوص القوانين التي تحكم المنطق الاداري وبصيغة لا تؤدي بالنتيجة إلى تهريب وإخافة المستثمرين لأن التحقيقات في مرحلة التدقيق تشمل عدداً كبيراً منهم وتخيفهم وقد لمسنا ذلك في العديد من الحالات.
تلك طبعا واحدة من مشكلات العشوائية والارتجال في الإدارة العامة حيث تقال ربع الوقائع وثلث المعلومات ونصف المعطيات فتخرج القصص والحكايات مشوّهة أصلاً للرأي العام وتلتقطها منصات اجتماعية متحفزة للإعلاء من قيمة السلبية ومتكاسلون لا يريدون الحقيقة ولا الاصلاح بقدر ما يريدون المناكفة والابتزاز وأحيانا «التسلي» بسمعة وطن من دون مسوّغ أخلاقي.
ما يجري على منصات التواصل الاجتماعي في الأردن أصبح مرعباً. لذلك يعيدنا صديقنا الشاب إلى السؤال المركزي دوماً… «ليش مش زابطة معانا في الأردن؟».
أعتقد أن الجواب يبدأ من عند القناعة التالية: لأننا لسنا جادين شعباً وحكومة بالقدر الكافي لضبط الأمور وفي كل الاتجاهات.
والجدية ثقافة وسلوك لا يمكن زرعها فقط بل ينبغي أن يؤمن بها الجميع، حتى تصبح معياراً للعمل والانجاز، وعلى الرأي العام أن يعيد الإدراك بأن أي مشروع للتجديف خارج سياق المؤسسات الوطنية أو يطرح معارضات عبثية لا معنى لها خالية من برامج ولا تناسب الاحتياجات المحلية المغرقة في التعقيد يفتقر إلى «الجدية».
وفي المقابل على مراكز القرار أن تظهر بدورها قدراً كبيراً من «الجدية» في دفع الناس للإيمان بقيمة وجدوى الجدية نفسها… من دون ذلك سنبقى عالقين دوماً في منطقة التجاذب الحواري المماثل لحوار الطرشان حيث لا عبارة واحدة مكتملة واتهامات بالجملة تعبر عموديا وأفقيا و«تلاوم» لا معنى له ومشروع وطني غامض ومفهوم يفسره كل فرد كما يحلو له وبصيغة أقرب لعرس عند الجيران يغني فيه مطرب «أبكم».
لدينا في الأردن، وأقولها بصراحة، حنين وشوق كبيران لـ«الجدية»، ونحتاج فعلاً على مستوى الدولة والناس لاحترام قيمة الجدية في القول والفعل والعمل… هنا البداية.