الأردن يحاول قراءة «أخطر درس» في حصة «المعلمين»: فاتورة الخشونة الأمنية تزيد مع مكونات الولاء التقليدي
«دوار رابع» في غالبية المحافظات ومؤشرات «التنمر» الإداري في الطريق
صعب جداً إخفاء مظاهر الانزعاج والقلق في مختلف مفاصل الدولة الأردنية من النتيجة التي انتهت إليها فعاليات إضراب شريحة المعلمين والدلالات الأعمق في المسارين السياسي والأمني إذا ما تحركت لاحقاً حلقات القطاع العام وخططت للاستثمار فيما حصل مع نقابة المعلمين.
الرسالة الأكثر صعوبة في إنتاج القلق والإحباط تلك المتعلقة بالدرس الأول للمعلمين بعد الخشونة الأمنية هنا. الدولة باتت تعرف مسبقاً اليوم بأن احتمالات التمرد والعصيان والتنمر في البنية الاجتماعية الموالية لها هي الأرجح مع ازدياد الظرف الاقتصادي والضائقة المالية، حيث عشائر ومناطق وشرائح في المجتمع لديها ملاحظات على إدارة الدولة، ولم تعد تقبل بأسس الولاء القديمة.
هنا تحديداً بدا للجميع بأن الإدارة الأمنية الخشنة، وخلافاً للمعهود والمألوف، لها كلفة أكثر بكثير من احتمالات الاحتواء الأمني أو الأمن العام، فقد حصل ذلك تماماً مع المعلمين وارتفعت فاتورتهم حيث انتهى قمع اعتصامهم في الخامس من أيلول/سبتمبر بإضراب مفتوح وتصعيدي هو الأطول في تاريخ المملكة. وحيث انتهت رغبة المستوى الأمني بمنع المعلمين من اعتصام منظم في منطقة الدوار الرابع في قلب العاصمة عمان بتحول المملكة جميعها عملياً إلى الدوار الرابع.
وحيث ضايقت خطة إغلاق إقليم عمان الأمنية يوم اعتصام المعلمين جميع الأردنيين رغم أنها خطة أمنية كانت ضرورية في رأي وزير الداخلية المخضرم سلامة حماد، الذي يقدر بأن تمكين المعلمين من الاعتصام على الدوار الرابع كان يعني احتمالية أن يستغل المشهد غيرهم، وأن يتحول وسط عمان إلى ساحة مخالفة للقانون وفيها تحريض وإثارة وأجندات تتجاوز المطالب العادلة للمعلمين.
استمعت «القدس العربي» مباشرة للوزير حماد وهو يصر على أن وزارته أبعدت مشكلة أكبر عندما تقرر، بمستوى الحكومة، منع اعتصام المعلمين في قلب العاصمة، حيث أرقام كانت تتحدث عن ثلاثين ألف معتصم بالحد الأعلى، وعشرين ألفاً بالأدنى، وعن أجندات يمكن أن تستغل وتتجاوز في هتافها المعلم ومطالبه. في كل حال، حصل ما حصل، وتلقنت الحكومة الدرس الأول من معلمي قطاعها، القاضي بأن الخشونة الأمنية لها ثمن بعد الآن، حيث يرتفع السقف.
نجحت نقابة المعلمين الأردنيين ليس فقط في التعبير عن ولادة مؤسسية مدنية عملاقة ومؤثرة في كل الموازين، بل أيضاً في التعبير عن صلابة الموقف الداخلي وسهولة إخضاع السلطة عندما يتعلق الأمر بمطلب معيشي وبسقف لا علاقة له بالسياسة وإصلاحها. نقابة المعلمين اليوم عنوان عريض للتغيير المدني الناعم وبآلية تسحب الذرائع الأمنية المعتادة، حيث لا يوجد مندسون ولا تنظيمات ولا أحزاب ولا أجندات سياسية.
وبهذا المعنى، يتقدم المعلم الأردني صفوف العمل المدني، ويستفيد الإخوان المسلمون الذين خدمتهم في نقابة المعلمين سياسات الدولة والأجهزة في إقصائهم عن بقية النقابات المهنية، في الوقت الذي وجد فيه المقربون من السلطة والمحسوبون عليها في الإعلامين الرسمي والخاص وفي النقابات المهنية أنفسهم معزولين عن المجتمع، لا بل متهمين بخذلانه ضمن قوائم أسماء سوداء. وبالتالي، أصبحت مهمة الدفاع عن الدولة حتى من قبل برلمانيين أو إعلاميين أو نقابيين هي الأصعب.
ما دام المجتمع يتربص بمن يفترض أنهم يخذلونه لصالح السلطة، وقد ظهر ذلك جلياً في تعبيرات منصات التواصل طوال أيام، حيث سخرية مرة شعبوياً من كتاب التدخل السريع و»المسحجين» والمنافقين، وحيث – وقد يكون ذلك الأهم – قوة صاعدة ومنظمة وصلبة خالية من التسييس في المجتمع، تمثل اليوم شريحة المعلم المنتصر في مواجهة نقابية، وهي قوة خالية أصلاً من شبهات التسييس ويحترمها ويقدرها المجتمع ومتغلغلة في أوصاله ومكوناته، وتستطيع التأثير بنحو مليون ونصف مليون تلميذ على الأقل، والتحرك بوسط أهاليهم وعائلاتهم.
بمعنى آخر، الشخص المتحرك اجتماعياً اليوم بدون تحضيرات أو لافتات حزبية وأيديولوجية وسط المجتمع هو المعلم، ويتموضع في قواعد عمل واشتباك يومية تؤهله للتواصل مع ملايين العائلات والأردنيين ضمن ميزان قوى انتخابي محض سيساهم لاحقاً بالتأكيد في ترسيم وتحديد أصول وقواعد اللعبة الانتخابية ثم شكل وهوية البرلمان ومؤسسات التمثيل الشعبي لاحقاً.
أدبيات المعلمين خلال الإضراب وبعده تقول بوضوح إن الثأر اجتماعياً، وفي مواسم الانتخاب، في طريقه للصعود، خصوصاً ضد النواب الذين وقفوا ضد المعلمين، وكذلك ضد العدد المحدود جداً من رموز البؤس الإعلامي الرسمي، وضد المعتدلين الموالين للدولة في مجمع النقابات المهنية.
الخلاصة هنا بعنوان التوثق من تبديل استثنائي في قواعد لعبة السياسة والعمل المدني في الأردن بعد الآن.
يبدو أن نفوذ وتأثير الأجهزة الرسمية والأمنية يتقلص هنا إلى حدود غير مسبوقة.
ويبدو أن التركيز على استهداف التيار المدني والإسلامي والانشغال بالملفات الهامشية انتهى بولادة نقابة ضخمة وقوى اجتماعية مدنية تتصدر عبر نقابة المعلمين، التي ولدت أصلاً في غفلة من الدولة والقرار في مرحلة الربيع العربي.