الأردن يسأل عن “إسرائيل التي تغيرت”: أيهما دفن أكثر “الوطن البديل” أم اتفاقية السلام؟
درج الاعتقاد طوال الوقت أن اتفاقية وادي عربة الموقعة عام 1994 كانت تتويجا علنيا لحزمة من الاتصالات السرية طوال الوقت قبلها بين المؤسستين الأردنية والإسرائيلية.
كثيرة جدا هي الأدبيات التي تتحدث عن اتصالات الأردن والإسرائيليين قبل توقيع عملية السلام رسميا.
وكثيرة هي القناعات اليوم بأن هذا التدشين الإعلامي الرسمي امتنع عن تقديم خدمات حقيقية لشراكة سلام كانت في العمق وأصبحت في السطح تماما الآن.
يقدر السياسي الخبير في الإسرائيليات والعمل الدولي عدنان أبو عودة أن الحاجة لأغراض البحث والتقييم وتصويب وتجويد القرارات ملحة للتفريق ما بين إسرائيل ككيان سياسي يخوض معه العرب والفلسطينيون صراعا وبين السياق الفكري الصهيوني الذي يدير الأمور عن بعد.
أقر أبو عودة أمام “القدس العربي” عدة مرات بأن بين الدول العربية عدد قليل جدا من الباحثين والمفكرين والسياسيين الذين يفهمون طريقة التفكير الصهيونية حيث ندرة في هذا المجال مع تراكم بين الحين والآخر بخبرات تتقمص المعرفة بإسرائيل أو بالتفاوض معها.
تلك مسألة لا تخطر في بال كثيرين على مستوى النخبة الأردنية. لأن الانطباع كان دائما يتعلق بعلاقات متينة لم تتأثر بالحكومات المنتخبة في تل أبيب بين الأردن وأذرع العمق الإسرائيلي.
عندما كان الدكتور محمد المومني وزيرا للإعلام كان يترفع عن التعليق على حيثيات ما تعرضه صحافة إسرائيل اليمينية. وعندما سألت “القدس العربي” المومني عدة مرات عن السيناريو الأردني أو مخاطر الخيار الأردني، كان يبتسم وهو يعيد التأكيد على أن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة مشروع وقرار استراتيجي عميق وثابت لأن عدم قيام دولة فلسطينية ببساطة يعني المساس بدولتين تمثلان الحق، الأولى هي دولة فلسطين والثانية هي الدولة الأردنية.
لذلك اقترح المومني دوما في نقاشات التخويف من الوطن البديل ترك هذه الأسطوانة لأن الأردن قيادة وشعبا لا يقبل حالة جغرافية وسياسية وإقليمية ودولية ليست فيها دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة.
الجرأة في التشخيص التي يتمتع بها المومني كانت تدفعه للقول إن القبول هنا ليس خيارا أصلا، لأن الحديث عن المساس بالهوية الوطنية هنا يؤسس للمقارنة بدولة أردنية يعرفها العالم ويقدرها ويحترمها بصورة أكبر من تقديره للنزعات الشوفينية واليمينية التي تظهر في العادة عند الإسرائيليين قبل وبعد الانتخابات.
وهنا برزت مقولة العلاقة في جذرها مع العمق الإسرائيلي والشراكة معه وهذا العمق يدرك أهمية اتفاقية وادي عربة في تثبيت السلام مع دولة مثل الأردن لا تعوضها الخيارات. فقد سبق للملك عبد الله الثاني شخصيا أن سخر من مقولة الوطن البديل علنا وقال “هنا دولة وشعب وجيش عربي .. عن أي وطن بديل تتحدثون؟”.
كانت تلك العبارة تقرع مثل الجرس ولأول مرة وتنطوي على تهديد خصوصا أن مؤسسات العمق الأردني تؤمن أيضا بضرورة قيام دولة فلسطينية بصرف النظر عن تشقلبات وبهلوانيات الإسرائيليين وغيرهم من العرب والأردنيين والفلسطينيين.
بمعنى آخر ما لا تقوله الدولة الأردنية برموزها علنا هو تلك الإشارة المتكررة لأن الضمانات الحقيقية ضد سيناريوهات الوطن البديل لها علاقة بتفاهم استراتيجي سبق ولادة اتفاقية وادي عربة مع العمق الإسرائيلي.
وعبارة العمق الإسرائيلي أينما ترد على لسان أردني خبير تقصد مؤسستي “الأمن والجيش” في الجانب الإسرائيلي حيث اعتاد الأردنيون على اعتبار ما يصدر عن حكومات منتخبة يمينية أو غيرها من تحرشات مجرد مناكفات لا تشكل خطرا.
برر ذلك المقولة القديمة والتي تراجع اليوم عنها صاحبها الدكتور عبد السلام المجالي يوم توقيع وادي عربة حيث عبارة قالها الرجل بعنوان:
“اليوم تثبت الحدود وندفن الوطن البديل”.
ما حصل مؤخرا وبالتزامن مع ذكرى اتفاقية وادي عربة هما مستجدان في غاية الأهمية.
الأول يتمثل في أن ثقة المؤسسة الأردنية بأن العمق الإسرائيلي لا يزال يمثل العلمانية الإسرائيلية الشريكة في العمق تزعزعت مؤخرا.
والمستجد الثاني يختصره مفاوض خبير هو وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر وهو يبلغ ويعلن عدة مرات بأن إسرائيل التي وقعت معها اتفاقية وادي عربة تغيرت وانقلبت على الدولة الأردنية.
يحتاج المستجد الذي يؤشر عليه الدكتور المعشر إلى مستويات متباينة من الاختبار.
ومؤخرا يبدو أن المستجد الأول المتعلق بالعمق الإسرائيلي بدأ يقلق الدولة الأردنية فعلا. فإسرائيل التي تغيرت بالتوازي مع ولادة مخاطر ما يسمى بصفقة القرن وتحكم اليمين الامريكي هي إسرائيل “خطرة جدا” وانقلابية فعلا على الماضي المشترك الذي توجته حفاظا على الأردن ومصالحه اتفاقية وادي عربة.
إسرائيل بهذا المعنى تصبح خطرة أكثر على هوية وملامح الدولة الأردنية لأسباب موضوعية لها علاقة بتصدر جناح الصقور في اليمين الأمريكي أيضا. وهنا تحديدا تتمأسس خطوات المقاومة والمناكفة الأردنية والتي تحاول اليوم التوثق من أن إسرائيل التي تغيرت هي التي دفنت اتفاقية وادي عربة أم أن الاتفاقية لا تزال عاملة وفاعلة في وظيفتها الأردنية الأخطر وهي دفن الوطن البديل؟