الأردن: عندما تفتك «الرعوية» بدولة الانتاج
صعب إفتراض «حسن النية» فقط في المشهد الذي انتهى مؤخرا بإعلان أطباء القطاع الصحي الحكومي نيتهم التوجه في مسيرة إعتصامية أمام مقر الديوان الملكي الأردني لإنصافهم إداريا وتوفير حلول لمشكلاتهم مع النظام الإداري.
طبعا حصل ذلك بعدما أعلنت حلول عبر رئيس الديوان الملكي وليس الحكومة لوفود الزاحفين من المتعطلين عن العمل إلى مقرات المكاتب الملكية.
الأطباء المعنيون لا يريدون التحدث مع رئيس الوزراء ولا مع وزير الصحة ولا مع الإدارة القانونية في مقر رئاسة الوزراء ولا مع وزارة المالية.
هدفهم المركزي والواضح والعلني لا يمكن نكرانه فهم يريدون استقبالا يليق بهم وطنيا ومهنيا وسعيهم لمقابلة شخص واحد فقط لا غير هو رئيس الديوان الملكي يوسف العيسوي.
ثمة اعتقاد هنا أن من يشغل وظيفة رئاسة الديوان الملكي عابر للولاية العامة ويملك العصا السحرية لحل كل المشكلات ويستطيع الاستثمار في هيبة المؤسسة السيادية التي يديرها لإجبار «أي وزير» أو أي قطاع آخر في المملكة على معالجة المتطلبات.
لا بد من استذكار التالي: لا يريد الأطباء هنا التحشد أمام موظفي الديوان الملكي ردا على التحرش بالوصاية الهاشمية على أوقاف القدس والمسجد الأقصى ولا يجتمعون للمطالبة بحملة أعمق على الفساد أو لمناشدة كبار المسؤولين بجرعات أقوى من الإصلاح السياسي.
وهؤلاء لا يحتشدون أمام مؤسسة تمثل جميع الأردنيين وتحظى باحترام كبير في أوساطهم حفاظا على الهوية الوطنية أو من باب إظهار الولاء والانتماء بقدر ما مشكلتهم أبسط بكثير فهم يتصورون أن وزير الصحة الذين يعملون تحت إمرته لا يريد مساعدتهم ولا الإصغاء لهم لا هو ولا الحكومة.
بالتالي وإزاء هذا الاستعصاء الوزاري يلجأ الشباب لمكاتب المقر السامي أملا في إيجاد حل لمطالب إدارية معيشية وإدارية بسيطة توجد آلاف الطرق والأساليب للتحدث عنها أولا ولمعالجة مشكلاتها ثانيا.
مهم معرفة أن شخصية مقدرة ومحترمة من وزن العيسوي وهو كبير موظفي الديوان الملكي كان يمكن أن ترتاح أكثر لو قام الوزراء بواجبهم الحقيقي في التعامل مع الملفات ولو شاهد الأردنيون أن حكومتهم «أقل تقصيرا» بحيث لا يضطرون للجوء إلى المؤسسات المرجعية.
الاستمرار في إدارة الملفات والمشكلات والتحديات الكبيرة والصغيرة على قاعدة «دولة الرعاية» لا يمكنه أن يمثل مقاربة تستوجب التقدير فيما تواجه البلاد مع العباد أزمة حادة متعددة الأوجه قد تفتك بدولة الانتاج
قد تكون تلك وجهة نظر يعتد بها لكن السؤال وبصرف النظر عن عدالة القضية المطلبية التي تخص شريحة العاملين في القطاع الخاص هو: على أي أساس يفترض الأردنيون اليوم أن مشكلاتهم اليومية والتراكمية لا تحل إلا بمبادرة من مؤسس المبادرات الملكية ونجم المشهد في الديوان الملكي؟
طبعا لا يريد علية القوم في الأردن الإجابة على السؤال الأكثر حساسية: بعد التفريط بمبدأ «الولاية العامة» وبكل اللغات واللهجات يوميا وإحراج الحكومة ومضايقتها إلى أين سيلجأ الناس؟
صاحبنا العيسوي مقاربته بسيطة فالديوان الملكي بابه مفتوح لكل الأردنيين والمواطن من الطبيعي أن يشتكي أو يتذمر أو يعرض حاجته أو مطلبه أو ينشد حلا عبر مكاتب المقام الملكي.
وتلك أيضا مقاربة اعتاد عليها الطرفان في الشارع والدولة في الأردن لكنها لم تعد صالحة إطلاقا لبناء المستقبل.
وهي بالتأكيد مقاربة لا علاقة لها بـ«دولة الانتاج» ولا بدولة المؤسسات وهيبة القانون بل تعيد البلاد والعباد مجددا إلى جدلية «الدولة الرعوية» التي وضعت على الأقل ثماني أوراق نقاشية ملكية لتجاوزها والتي أفهم شخصيا من كبار المسؤولين والسياسيين أنها أصبحت من الماضي.
في الحالة الأردنية لا يمكن قبول «الفراغ» فحصول تقصير حكومي يعني أن يملأ «الأمني» والسيادي الفراغات. لكن ذلك لا يمكنه أن يعكس الطموح الملكي ولا الرؤية الملكية ولا يناسب تلك المعايير التي في بلد يتحدث رئيس الوزراء فيه عن «الثورة الصناعية الرابعة» في الوقت الذي يزحف فيه مئات العاطلين عن العمل يوميا ومنذ أسبوعين عبر الصحراء مشيا على الأقدام بإتجاه مقر الديوان الملكي بحثا عن وظيفة.
لا أخفي إطلاقا عدم إعجابي بالطريقة التي استعملت في التعامل مع أزمة المتعطلين عن العمل في مدينة العقبة. وشعرت كمراقب بالاستفزاز من طريقة بعض المتعطلين في عرض مشكلتهم.
لكن الاستمرار في إدارة الملفات والمشكلات والتحديات الكبيرة والصغيرة على قاعدة «دولة الرعاية» لا يمكنه أن يمثل مقاربة تستوجب التقدير فيما تواجه البلاد مع العباد أزمة حادة متعددة الأوجه قد تفتك بدولة الانتاج.
دور مؤسسات مثل الديوان الملكي محترم ومقدر ومهم وأساسي.
لكن المعطيات الميدانية عند الحكومة والأجهزة الأمنية واجتهادات كبار الموظفين خصوصا في المواقع المرجعية ينبغي أن تتميز بدرجة أكبر وأرفع من الامتثال وتجنب الاجتهاد الشخصي والمبالغة في الاستعراض الغرضي لأن البديل هو الوقوع في كمين العشوائية وعلى فوهة مطب الارتجال والعمل بنظام القطعة والتقسيط الذي عانى منه الجميع في الأردن.
أزعم أن دوائر صناعة القرار في بلدي تعرف ذلك جيدا ولا تنكره، الأمر الذي يؤدي لبروز تصرفات غريبة وغير مفهومة وفي توقيت حساس تدفع باتجاه الانطباع بان الكثير من الأشياء التي نعتقد أنها إرتجالية او لم تكن مخططة او لم نفهمها تحصل لأنها «مقصودة تماما» وأهدافها مرسومة بعناية شديدة… تلك حصريا هي المصيبة الكبرى.