الأردن: «ميت» ومشتبه به أيضاً
الفاصل دقيق بين نبل هذه الأهداف وتحولها في بعض الحالات إلى عقوبات مسبقة ذات طبيعة اجتماعية تساهم في تشويه سمعة الأفراد وقد تسيء للاستثمار والاقتصاد في الوقت نفسه ودون قصد بطبيعة الحال من الهيئات الرسمية المعنية
لا أحد يمكنه أن يفهم بصورة محددة كيف يمكن محاربة الفساد فعلاً وتوسيع نطاق معايير النزاهة بالتحقيق أو اتخاذ خطوات مع رجل ميت؟
بالمقابل، من الصعب تقييم مستوى الإنتاجية عندما يتعلق الأمر بقرارات إدارية تنطوي ضمنياً على عقوبات لها علاقة بالتحقيق ما قبل القضاء ويمكن أن تمس بمبدأ العدالة الأبرز المتمثل بـ«أي متهم بريء حتى تثبت إدانته».
بينات الإدانة عبئها وفقاً للمبدأ الثاني في أنظمة العدالة الكونية على الادعاء وليس على المتهم.
ضمنياً، بعض الإجراءات التي تتخذ من هيئات الرقابة الأردنية ضد أشخاص مشتبه بفسادهم أو صمتهم عن الفساد لا غبار عليها في الجانب القانوني، لكنها يمكن أن يشتبه بمساسها بمبادئ العدالة وسط مجتمع مهووس بإدانة الأشخاص وشغوف بالإساءة لسمعتهم ووسط وسائل إعلام ومنصات تواصل تمتهن التشهير ولا قواعد أخلاقية من أي نوع تضبط آليات النشر والإضافة عندها.
طبعاً، وسط صراع كلاسيكي ومألوف بين مراكز القوى ووسط مجتمع النميمة الموروث وميل الشخصية الأردنية أصلاً لتسريب الوثائق والتفاعل مع الشائعات وإصدار الأحكام والاستنتاجات، تصبح عملية الإصلاح ومكافحة الفساد أكثر صعوبة وتعقيداً وأقل إنتاجية وجدية؛ لأن غياب الإنصاف هو السيناريو الأكبر هنا، ولأن معايير القانون الصارمة تنفذها بالعادة سلطات المحكمة والقضاء، وهي سلطات لا تؤمن بالشعبوية ولا تتأثر بالرأي العام ولا بضغط الإعلام والشارع وتتعامل مع أي ملف أو قضية ضمن أطر النص القانوني وعلى أساس الأدلة والبراهين.
الإشكال يحصل في مرحلة التحقيق وما قبل المحكمة.
وهي مرحلة مهمة طبعاً وأساسية، لكن الشارع في الحالة الأردنية يبالغ ويهول، ووسائل الإعلام غير الموضوعية تفتي وتزيد وتعيد في القضايا ولا أحد يراجعها، حتى إن الوجدان الاجتماعي يعتبر اليوم ومن فرط أزمة الثقة مع السلطة والحكومة بأن مجرد التحقيق مع أي شخص في أي قضية يوسمه بالفساد المحتمل وحتى إن أي شاهد يستدعى للتحقيق أو التدقيق.. يمكن أن يتحول بالنسبة للمنصات الاجتماعية، وببساطة ودون ضمير أو موضوعية، إلى مشتبه به.
ذلك لا يخدم العدالة، فقد تعددت في الأردن وتكاثرت الهيئات التي تراقب أداء الموظفين أو آليات الإنفاق أو تحقق في الملفات.
وتلك مؤسسات رقابية مهمة جداً ولا خلاف على ذلك، لكن تزاحمها في بعض الملفات قد يرهق حتى سلطة القضاء ويمس بعدالة إجراءات ما قبل المحكمة ويؤدي إلى الاشتباه بعشرات الأبرياء.
أفهم من خبراء ومختصين ومواطنين صالحين في الوقت نفسه بأن إعلان الخطوات الاحترازية ما قبل التحقيق في بعض القضايا قد يتحول، وسط جهل شرائح كثيرة في المجتمع والحراك، إلى عقوبة على الناس والأفراد، رغم أن تلك الاحترازات مثل إصدار الحجز التحفظي على الأموال أو المنع من السفر أو حتى الاستدعاء للتحقيق كلها وسائل يتيحها القانون للمحققين، وأهدافها نبيلة.
الفاصل دقيق بين نبل هذه الأهداف وتحولها في بعض الحالات إلى عقوبات مسبقة ذات طبيعة اجتماعية تساهم في تشويه سمعة الأفراد وقد تسيء للاستثمار والاقتصاد في الوقت نفسه ودون قصد بطبيعة الحال من الهيئات الرسمية المعنية.
الأصل هنا أن يتدخل المستوى السياسي والإداري لمنع نشر إجراءات التحقيق الاحترازية في أي قضية وإلزام جميع وسائل الإعلام بذلك قبل صدور حكم قضائي قطعي.
بمعنى أن مرحلة ما قبل التحقيق حساسة، وينبغي أن تعزل عن تأثيرات الشارع ومنصات التواصل حتى لا يدفع أبرياء أو شهود ثمن غياب العقل في التصنيف والاتهام عند الرأي العام.
وبمعنى، قد لا يكون من الحكمة نشر مذكرات ونصوص احترازات قانونية مثل منع السفر أو الحجز للتحفظ على الأموال المنقولة وغيرها دون قرار قضائي.. ذلك أنفع للناس وأقل إثارة للضجيج وأكثر عدلاً وإنصافاً بكل حال، وإن كنا نفهم أنه يتطلب ضبط ظاهرة لا علاقة لها بجهات التحقيق وقد تكون أردنية بامتياز وهي ظاهرة التسريب ونسج الشائعات.
قامات كثيرة تعرضت للتشويه بسبب ذلك وذاكرة الجمهور تتصور بأن كل من عمل في قطاع المال أو في السلطة إما فاسد أو مشتبه بفساده، وعليه تصبح الاحتياطات بالرغم من أهمية التحقيقات وطنياً ضرورة ملحة لكي لا تتشوه سمعة العباد والبلاد مجاناً. الهيئات الرقابية التي تدقق وتحقق مثل هيئة مكافحة الفساد والنزاهة وديوان المحاسبة تقوم بجهد جبار ووطني، خصوصاً على صعيد ردع المخالفات وعلى الصعيد الوقائي.
لكن العاملين في هذه الهيئات عددهم قليل، وميزانيتها أقل، وحجم العمل مرعب، خصوصاً وسط بيئة شعبية تحترم الإشاعات والتسريب وثقافة عامة وبيروقراطية لم تتعود على معيار دولة القانون والمؤسسات.
ويمكن أن تُظلم بعض الشخصيات بمجرد ورود اسمها في محاضر تحقيق جراء تلك الزحمة وبسبب تقديس قيمة النميمة والصراعات الكيدية ونمط العقلية الاجتماعية في المبالغة والتهويل. يمكن تطوير الآليات في مرحلة التحقيق وما قبل المحكمة بصورة تنهي هذه الفوضى.