جنازة الأردن «المسلحة»: حراك ورصاص في الشمال نقطة تحول «حساسة» ودعوات لإعادة «قراءة المشهد»
لا أحد على مستوى السلطة في الأردن يريد أن يتوقف بتعمق عند جنازة بلدة عنجرة الشهيرة وما حصل فيها، حتى لا يضطر المسؤولون لمغادرة منسوب «الإنكار» الذي تتعاطى الحكومة بموجبه مع عاصفة الأحداث المحلية وفقاً لقاعدة «العرس عند الجيران».
لكن هذا الواقع الإنكاري بطبيعة الحال لا يعني أن ظهور السلاح الرشاش وإطلاق الرصاص الكثيف خلال «جنازة» شاب توفي بالخطأ مشهد يخلو من تلك الدلالات العميقة جداً والتي لا ترغب رموز مؤسسة القرار بقراءتها أصلاً بدلاً من بناء الاستنتاجات وتشكيل مقاربة منطقية تساعد دوائر صنع القرار في الاستدراك. رموز السلطة وأذرعها في الحالة الاجتماعية الأردنية لم تعد تعاني من «أزمة مصداقية» مع الجمهور فقط. بل انتقل الأمر إلى مصاعب حساسة تواجه مبادرات الاحتواء ومشاريع الاستدراك في انهيار إداري يصر مراقبون على أن الإدارة العليا الأردنية لم تصل لمنسوبه منذ نحو 40 عاماً.
ثقافة الإنكار الرسمي في مواجهة مشاريع مناكفة الدولة واتهام السلطة
في كل حال، لا يطلق الأردني عشائرياً واجتماعياً ودينياً الرصاص لأي سبب في «المقبرة»، ويمنع مخزون التراثيات التي يحفظها الجميع «إقلاق راحة الموتى» أو المساس بهيبة المقابر، وإن الحسابات – مهما بلغت من التعقيد مع الدولة والسلطة أو مع المجتمع-لا تصل بالعادة لحالة يطلق فيها الرصاص خلال دفن الجثمان.
مثل هذا التجاوز الخطير على التراث العشائري والاجتماعي معناه ببساطة أن الغاضبين من أهالي المغدور وبلدة عنجرة لم يجدوا طريقة لتفريغ الاحتقان خارج سياق مخالفة العادات والتقاليد على نحو «انفعالي» أهم ما فيه أنه «مناكف» للدولة و«يتهم» السلطة. حتى هذا البعد في المشهد لا يريد ساسة ورموز «الأمر الواقع» اليوم من أصحاب المسؤولية التنفيذية قراءته بدون انفعال وتشنج وكلاسيكيات لها علاقة بهيبة الدولة والقانون والمؤسسات والولاء بكل أصنافه السام والمحمود.
ذلك النمط من الاحتجاج-وعبر التجمهر لتشييع جثمان شاب وصف بالشهيد وسقط غدراً خلال تبادل غامض لإطلاق النار بين الأهالي ورجال الأمن-هو بحد ذاته «رصاصة» ينبغي أن تقرأ وبعناية من حيث المكان والزمان وآلية التعبير.
لكن يبدو أن الحكومة الحالية على الأقل قررت تجنب القراءة العميقة للحدث باعتباره خروجاً بمنتهى الحساسية عن المألوف الأردني اجتماعياً وبيروقراطياً وأمنياً، خصوصاً وأن «عنف المجتمعات» وفي مناطق الشمال تحديداً كان طوال الوقت ظاهرة تخص الأهالي وليس السلطة، عندما تحصل بصيغة نادرة.
في الأثناء، يستذكر الخبراء في القراءة العميقة بأن جزءاً من أهالي الشمال كانوا أصلاً في حالة غضب بعد «اقتصار» التحقيق في ملف فساد التبغ على أحد أولادهم فقط من مسؤولي عمان. وقد استمعت «القدس العربي» مباشرة لشخصيات مهمة ووطنية من عشيرة الخصاونة، لا تعترض على محاسبة المتورطين بالفساد، بل تدعو لتطبيق المعيار القانوني، لكنها تعترض على الرسائل الملغزة التي يمكن أن تنطوي عليها إدارة عملية مكافحة الفساد، خصوصاً في ملف السجائر وغيرها.
لاحقاً، تندلع أحداث عجلون وعنجرة، وبسبب «حادثة اعتيادية» يمكن أن تحصل دوماً وفي أي مكان بين مواطنين ودوريات أمنية، لكن التفاعل الدراماتيكي واستقرار نسبة «احتقان» كبيرة في نفوس المواطنين، خصوصاً بعد قانون الضريبة الجديد وارتفاع الأسعار، دفعا الحادثة إلى تطورات صعبة، بحيث أصبحت المواجهة بين رموز الأمن والحكومة والسلطة من جهة وعشائر المنطقة من جهة أخرى.
تدلل الهتافات التي أطلقها المشيعون في عنجرة على هذا الواقع، حتى وإن قررت الحكومة أن «لا تسمع» أو تدعي أنها لم تسمع. وتدلل – وهذا قد يكون الأهم – على أن «التململ» الحراكي جراء الأزمة الاقتصادية الحادة وارتفاع كلفة المعيشة واستعصاء أزمة التمثيل والأدوات وضعف مصداقية الخطاب الحكومي، في طريقها إلى بؤر منزعجة شمال البلاد بعدما كانت الحراكات «التنموية» ظاهرة تلامس حصرياً بعض مناطق الوسط والبلقاء في الوسط، وبعض البؤر الساخنة في جنوب المملكة.
العمل متواصل وكبير طوال أسابيع في محافظة الطفيلة في الجنوب، وفي معان، على أمل الاحتواء وسط دعوات ملكية علنية للمسؤولين تطالب بزيارة الأطراف والتحدث للناس عن همومهم.
لكن «إصلاح المشهد» في الجنوب يلازمه – من سوء حظ الحكومة – اليوم انفلات بعض التعبيرات الحراكية في الشمال. الشمال لم يشارك اجتماعياً بصفة عامة في الحراك الشعبي منذ عام 2011، لكن «الأخطاء» التي كانت ترتكبها أدوات السلطة مع الناس في الماضي وتعبر بدون كلف أو نتائج إيماناً بالدولة وولاء للنظام، لم تعد تعبر بسهولة هذه الأيام.
والأردن «عالق» اجتماعياً بتناوب الموجات الحراكية هنا وهناك، حيث يتواصل هذا التعاقب ويتجول جغرافياً ومناطقياً بين المحافظات، فيما الأمل ينفقد أكثر من مرة بـ «الإصلاح الحقيقي» ومرات بـ «دولة المواطنة والمؤسسات».