«حالة البلاد» بالبريد الأردني المستعجل: هجوم حاد على «تشخيص» استراتيجي يقرر: «الدولة تتراجع وفي أزمة مركبة»
ليست صدفة بالتأكيد بقدر ما هي «مهمة» قررت الهيئة المستقلة للانتخابات في الأردن التكفل بها نيابة عن المجتمع المحافظ والكلاسيكي في المؤسسات الرسمية الأردنية عندما تعلق الأمر بالهجوم النادر على تقرير استراتيجي عميق ومهم تصادف أنه صدر مؤخراً عن مؤسسة فكرية رسمية في الواقع هي المجلس الاجتماعي والاقتصادي.
لهجة المناكفة في التوضيح الصادر عن الهيئة المستقلة للانتخابات ملموسة لأن مستوى المصارحة التي طرحها التقرير المشار إليه ينتج في الواقع فائضاً من الاسترسال في منطقة الإنكار لحجم المشكلات التي تواجه اليوم الدولة الأردنية وليس الحكومة فقط. ومن المرجح أن المستقلة للانتخابات لم تكن بوارد التصدي منفردة للتقرير العميق والخطير دون بقية المؤسسات لولا الدفع باتجاه مهاجمة التقرير من قبل رئيس هذه الهيئة، الوزير السابق واليساري الوحيد تقريباً في نخبة الإدارة والحكم الدكتور خالد الكلالدة.
التقرير صدر عن المجلس الاجتماعي الاقتصادي وبتوقيع نحو 700 باحث بقيادة رئيس المجلس، وهو مفكر ليبرالي صريح وإشكالي من حجم الدكتور مصطفى الحمارنة. والبيان النقدي الصادر عن المستقلة للانتخابات، أمس الأربعاء، أظهر مستوى «الشخصنة» في الاشتباك والتلاقح السياسي عندما ألمح إلى تعليق بتوقيع الدكتور الحمارنة على مضامين التقرير، وفي الوقت نفسه ألمح أيضاً إلى نشر التقرير في الإعلام. تلك رسالة من عدة جهات رسمية يهمها الأمر لم يعجبها التقرير بالضرورة وتنتقد ضمنياً نشره للجمهور قبل تزويد دوائر صنع القرار به.
لكنها رسالة بلسان طاقم الدكتور الكلالدة، وهو شريك سابق للحمارنة عندما كان وزيراً للتنمية السياسية خلال التعاطي مع ملفات المبادرة البرلمانية التي أسسها أصلاً الأخير وكانت عنواناً مثيراً وعميقاً لفكرة الاشتباك الإيجابي بين السلطتين.
مدن الكثافة السكانية لا تشارك في الانتخابات.. الاستراتيجيات «على الورق» فقط والإصلاح «متعثر»
الهجوم الذي شنته المستقلة للانتخابات كان يمكن أن تمارسه جهات أخرى. لكن الهيئة المستقلة لجأت إلى تفنيد الجزء المتعلق بالانتخابات والمشاركة الشعبية في التقرير واتهمته بأنه تقرير انطباعي وتعوزه الدقة ومليء باللغة الإنشائية، والطاقم البحثي يفتقد المهارات العلمية.
مثل هذه العبارات الفضفاضة قد تستهدف إنتاج رأي مضاد في الشارع ووسط النخبة لتلك المضامين الجريئة التي وردت في تقرير يحمل اسم «حالة البلاد» والهجوم حصل إعلامياً، فيما كان رئيس المجلس الذي أصدر التقرير في زيارة عمل خارج البلاد.
في كل حال، وبعيداً عن الهجوم الوظيفي على المجلس وتقريره الاستراتيجي، يمكن القول بأن مضامين ما أورده نحو 700 باحث، بينهم العشرات من الوزراء والمسؤولين السابقين، كانت صادمة في بعض المفاصل من حجم إفراطها بالمصارحة والمكاشفة بالرغم من حصول بعض الأخطاء.
التقرير تحدث بجرأة مثلاً عن ضعف المشاركة في الانتخابات للأردنيين من أصول فلسطينية وفيما يسمى بمدن الكثافة السكانية، بسبب تقسيمات الدوائر الانتخابية. وأقر التقرير، وبجرأة تحسب لمن أصدره، بأن البلاد تواجه أزمة مركبة متعددة الأوجه، وبأن التراجع في مؤسسات الدولة وخدمات القطاع العام واضح ولا يمكن إنكاره. وتحدث أيضاً عن عجز الحكومات المتعاقبة في تنفيذ تلك الخطط التي تعلنها أصلاً، وعن تحول الاستراتيجيات الوطنية إلى مجرد «حبر على ورق». وليس سراً أن التقرير أقر، ولأول مرة ومن مؤسسة رسمية هذه المرة، بأن مشاريع الإصلاح تعثرت، وبأن الحكومات واصلت السير على منهجها الخاطئ ذاته دون معالجة التراجع.
تشخيصات التقرير تضمنت انتقاداً لاذعاً وواضحاً للمحاصصة وغياب مفاهيم العدالة والكفاءة، مع انتقاد توزيع المناصب والمكتسبات على أسس جهوية.
وقيمته تنحصر في أنه غرق في الاستراتيجيات، وبرامج عمل الوزارات، وفي نحو 35 محوراً في فترة تعاقب فيها 166 وزيراً على المواقع نفسها ضمن أكثر من 400 وزير خدم في فترة التقييم نفسه.
صدر التقرير حقيقة في التوقيت نفسه الذي استمرت فيه ثقافة إنكار المشكلات والتحديات، وكذا في التوقيت نفسه الذي حاولت فيه حكومة الرئيس الدكتور عمر الرزاز رفع نسبة التفاؤل والإيحاء بأن الحركة مستمرة، وفي اليوم ذاته الذي أعلن فيه الملك عبد الله الثاني حماسته لمستقبل الأردن.
واضح تماماً من هجوم الهيئة المستقلة للانتخاب على التقرير ورموزه أن المضامين لم تعجب العديد من دوائر القرار بسبب جرأتها وصراحتها في التشخيص، خصوصاً وأن التقرير أرسلته مؤسسة وظيفتها التفكير والتشخيص أصلاً لصالح أجهزة الدولة ومؤسساتها وعبر البريد الخاص والمستعجل إلى أصحاب القرار المرجعي، بمن فيهم رئيس الوزراء.
وعلى ما في التقرير من أهمية في المضامين والتقييم، تبدو الفرصة مجدداً متاحة للتجاذب مع محاولة التعرض لباحث كبير ولاعب مهم هو الدكتور الحمارنة، الذي اختير أصلاً من المرجعيات لرئاسة المجلس الاجتماعي والاقتصادي، وبتفويض له علاقة بفكرة خلية تفكير ومطبخ لصالح القرار والدولة.
بمعنى آخر، إن المجلس والتقرير وأطقمهما قاما عملياً بالواجب في إبلاغ مركز القرار عن المشكلات والتحديات الأساسية، وهو إبلاغ لم يعجب كثيرين داخل الحكومة والدولة على الأرجح.