وزارة «يابانية»… في الأردن
قادتني صدفة طيبة إلى زيارة مقر وزارة التعليم العالي في الأردن بعد الحاح أحد الأساتذة المحترمين وهو يصنع بذكاء فرصة مواجهة مباشرة بين كاتب هذه السطور وبين التطور اللافت الذي حصل في نظام التعاطي مع الجمهور من المواطنين ومراجعي هذه الوزارة الخدماتية الضخمة.
كنت بصراحة قد زرت الوزارة نفسها في الماضي البعيد مرتين أو ثلاثة وما تحتفظ به ذاكرتي عنها مؤسف سياسيا ومخجل إداريا حيث العشوائية والارتجال والازدحام والأداء البيروقراطي المترهل جدا والافتقاد إلى النظافة في بعض الأحيان إضافة إلى صياح الموظفين والمراجعين.
شاهدت وبأم العين وبزيارة قصيرة ليس فقط ما ينتج صدمة بالمعنى الإيجابي.
ولكن الأهم شاهدت نموذجا صغيرا عن إمكانية تطوير وإصلاح نظام الخدمات في بعده الإداري في وزارة يراجعها آلاف المواطنين والأجانب يوميا وبكل بساطة عندما يحتكم العقل الإداري لضمير الرغبة في الانجاز أو عندما يقرر مسؤول بيروقراطي أن يسمح للإجراء الصحيح بالولادة.
باختصار شديد وحتى لا أتهم بالترويج لأي من الموظفين وبصرف النظر عن هوية وزير التعليم العالي وهو رجل محترم بكل الأحوال لا بد من الإشارة إلى أنني تعاملت ولأول مرة تقريبا عند مراجعة دائرة حكومية خدماتية مع طاقم موظفين مبتسمين ويمررون المعاملات بسلاسة ومع غابة من اللافتات المزروعة على الجدران تبلغ المواطن والمراجع أن معاملته بصرف النظر عن هويتها ينبغي أن تنجز في فترة زمنية ما بين 3 و10 دقائق فقط.
قالت لي موظفة سألتها عن مصداقية هذه الملاحظة إن «انجاز المعاملة يحتاج إلى دقيقتين يا أستاذ».
هدوء أعصاب غير مسبوق ومواطنون يحصلون على بطاقة الدور ويجلسون بهدوء في مكان مريح ومخصص للمراجعين.
لفت نظري فعلا حجم الهدوء في الأروقة والمكاتب والممرات والذي لم نكن نحلم به كأردنيين في الماضي ولفت النظر أن المراجع وهو ينتظر في تلك الدقائق التي ألزم الأمين العام للوزارة موظفيه بها يمكنه أن ينظر إلى شاشة تلفزيونية كبيرة تنقل له بالصوت والصورة تراثيات الوطن وثمة موسيقى هادئة في الأروقة تدفع المواطن والمراجع إلى عدم التشنج.
يؤكد الأمين العام ومساعده وهو أستاذ جامعي فاضل ايضا أن غالبية ساحقة من الخدمات المطلوبة من الوزارة يمكن الحصول عليها إلكترونيا اليوم الأمر الذي يفسر عدم وجود ازدحام ويعد المسؤولون في هذه الوزارة كل أردني معنيا بمعاملة أن يحصل على الخدمة المطلوبة بالمطلق إلكترونيا إذا رغب.
يؤكد الأمين العام أن غالبية ساحقة من الخدمات المطلوبة من الوزارة يمكن الحصول عليها إلكترونيا اليوم الأمر الذي يفسر عدم وجود ازدحام ويعد المسؤولون في هذه الوزارة كل أردني معنيا بمعاملة أن يحصل على الخدمة المطلوبة بالمطلق إلكترونيا إذا رغب
عولجت مشكلة اسمها تأخر الموظفات عن الدوام على الطريقة اليابانية حيث تبين للإدارة أن السبب الرئيسي لتأخر الموظفات عن الدوام الرسمي بعد التقييم والتشخيص والمتابعة هو التزام الأمهات من الموظفات بإيداع أطفالهن ما تحت سن المدرسة في دور الحضانة في محيط السكن.
معالجة مثل هذه المشكلة لم تتطلب أكثر من تفعيل العقل الإداري واتخاذ قرار بسيط وجريء حيث خصص مساحة في مباني الوزارة مستقلة وأقيمت حضانة بمواصفات عصرية جدا وبإدارة فريق مختص تستقبل ابن الموظفة أو ابنتها خلال الدوام الرسمي ومقابل مبلغ بسيط جدا وما حصل باختصار أن الموظفات اللواتي كن يتأخرن بالعادة يحضرن بحماس للدوام وقبل الوقت الرسمي وبالتالي مستوى الإنتاجية الإدارية تضاعف عدة مرات.
نحاول هنا تحصيل اجابة مفترضة على سؤال قديم.. هل الاصلاح الإداري مستحيل في بلد كالأردن؟
الإجابة مفتوحة على احتمالات وأبرزها تلك النظرية التي تقول إن الارادة السياسية للإصلاح الاداري والبيروقراطي غير متوفرة لأن كلفة الاصلاح أكثر بكثير من كلفة بقاء الأمور كما هي.
ما لمسته في التعليم العالي من الوصفة التي استعملت هنا في منتهى البساطة وعنوانها «ابتسم.. لا مبرر للغضب والتشنج والازدحام».
حقيقة ذلك درس إداري وسياسي ووطني بامتياز لكل الذين يستصعبون الاصلاح والتغيير ويحملونه أكثر مما يحتمل ويحاولون فلسفة الأمور بطريقة درامية فالخدمة المقدمة للمواطن لا تحتاج لنظريات سياسية.
والإقليم لا يمنع الموظف الأردني من أداء الخدمة أو التدرب على طريقة أفضل لأدائها والمطلوب من المراجع أو المواطن بكل بساطة التوقف عن البحث عن وساطة إدارية مسبقة لإنجاز معاملته أو الوقوف ضمن المزدحمين على أبواب المدراء والمسؤولين.
بكل حال وباختصار حجم الهدر في الوقت والمال والجهد كبير والسلاسة الإدارية التي تدار فيها أنظمة الخدمات في بعض المؤسسات الحيوية للمواطن مثل وزارة التعليم العالي ودائرة ترخيص المركبات والسائقين هي عبارة عن نماذج ناجحة يمكن تعميمها إذا ما توفرت النوايا الايجابية والرغبة في إدارة الموارد البشرية وإذا ما سمح لخبرات متعلمة وعميقة مثل تلك التي شاهدناها في المستوى القيادي في وزارة التعليم العالي ونحجم عن ذكر الأسماء ترفعا.
ثمة جنود مجهولون وأوفياء في الإدارة العليا في بعض المؤسسات الأردنية يقومون بجهد متطور ومحترم ومقدر.