رسائل الرزار بعد إنهاء «إضراب المعلمين الأردنيين»… أسقط التحفظات المالية للحفاظ على أوراقه مع الشارع
لا يمكن كثيراً توقع أو معرفة أسرار وخلفيات استعانة رئيس وزراء الأردن، الدكتور عمر الرزاز، بحجم ضخم من «الليونة» حتى ينقذ رأسه ثم حكومته من كمين سياسي وشعبي استثنائي بعنوان «أزمة المعلمين».
فجأة واعتباراً من فجر يوم الجمعة تبدلت أحوال الرزاز ومواقفه، واستبدل تصلبه المتواصل لأربعة أسابيع ضد مطالب المعلمين بمستويات رفيعة من الليونة البيروقراطية. وسأل سياسي «خبيث» وعميق أمام «القدس العربي»: كيف استطاع الرزاز تهريب كمية كبيرة من «زيوت الليونة» والتسليك البيروقراطي حتى خضع تماماً لحراك المعلمين؟
ما حصل هنا فعلاً مثير، فقد انتقل الرزاز من موقفه المتشدد فجأة واعتباراً من صباح الجمعة حتى انتهى المشهد باحتفالات المعلمين ورقصاتهم في الشوارع فجر الأحد، فقد حصلوا ليس فقط على كل ما يطالبون به بل على أكثر مما توقع الجميع. وفي جردة الحساب المطلبية طلب المعلمون زيادة على راتبهم بقيمة 50%، فحصلوا على زيادة تبدأ من 35% وتنتهي بـ 75%.
عملية بيروقراطية خلف الستارة ودور خفي لوزراء الرئيس بعد إقصاء «جناح التأزيم»
طلب المعلمون أيضاً اعتذاراً عن الخشونة الأمنية ضدهم، فحصلوا على أسف واعتذار، وتطوع الرزاز من دون تنسيق مع وزارة الداخلية بتحقيق مفصل ومعلن بالإساءات الأمنية، وهو تحقيق تطوع الرزاز أيضاً للمرة الثانية بأن تجريه هيئة مستقلة يترأسها الأخ المسلم الأسبق الدكتور، ارحيل الغرايبة، وهي المركز الوطني لحقوق الإنسان. حزمة الليونة الحكومية المباغتة منحت المعلمين أيضاً حصة إضافية من مقاعد المكرمة الملكية للجامعات وتعزيز التأمين الصحي وتسهيلات أخرى.
هذه نتيجة استوجبت الاحتفال وجولة المفاوضات الأصعب والأعنف والتي انتهت بالاتفاق بدأت في منزل الرزاز نفسه صباح الجمعة وانتهت بالرسالة الأهم، حيث أوفد رئيس الوزراء طاقمه إلى بيت المعلمين ونقابتهم، بمعنى أن الحكومة تذهب إلى المعلم هنا.
في مقر النقابة وحتى فجر الأحد، كلف وزيران لم يكن بينهما وزير التربية والتعليم، هما مبارك أبو يامين، وزير الشؤون القانونية، وطارق الحموري، وزير الصناعة والتجارة.
لا أحد يعلم ما هو دور وزير الصناعة والتجارة بمسألة من هذا النوع، ولا يمكن معرفة خلفية إقصاء وإبعاد وزير التربية والتعليم، الدكتور وليد المعاني، المتهم بالتأزيم عن المشهد الاحتفالي الختامي الذي قال فيه أبو يامين علناً إن الوطن انتصر.
هنا يبعد وزير الداخلية القوي، سلامة حماد، عن ملف الاعتذار الرسمي، رغم أنه أبلغ «القدس العربي» سابقاً بأن الأجهزة الأمنية تحقق في مشكلات تحدث عنها المعلمون ويقصى عن المشهد الوزير المعاني ويتقصد الرزاز خلطة وفد مفاوض ويوقع على الاتفاق النهائي مع رموز أطول إضراب في تاريخ المملكة، بحيث تكون جميع الجهات المطلوبة في الموقع.
وجود الوزير الحموري في المشهد يمكن اعتباره رسالة بصمة شخصية من الرزاز.
لكن، ما لا يعرفه الجمهور أن ترتيبات الرزاز تحت عنوان الخضوع لنقابة المعلمين تماماً وإعادة إنتاج المشهد بدأت أصلاً بإبعاد من يسميهم أحد كبار النواب بـ«وزراء التأزيم» عن حلقة الملف، ثم استرسلت بدور في الكواليس وخلف الستارة للوزير الموسوم بالحراك وزير الاتصالات، مثنى الغرايبة.
في هذه المعركة التفاوضية تكتم الرزاز على التفاصيل، واستعمل كل الأدوات، ويبدو أن الوزير الشاب الغرايبة تكفل بمهمة التمرير ونقل بعض الرسائل برفقة عضو البرلمان الإسلامية القريبة جداً من نقابة المعلمين، هدى العتوم.
ثمة وسط النخبة من يعتقد أو يتصور بأن العملية «الاستشهادية» في الخضوع البيروقراطي أنجزها الرزاز أو عزف على أسطوانتها منفرداً ومن دون إشراك أطراف أخرى قوية في الإدارة، وبالتالي ثمة رمز هو الأكبر لعملية الخضوع لإرادة المجتمع والشعب عبر المعلمين وهو الرزاز بلا شكوك.
لسبب أو لآخر، سقطت فجأة كل التحفظات، وعلى رأسها المالية التي كان الرزاز يعلن أنها ضاغطة جداً وتمنع الخضوع لمطالب المعلمين بسبب أزمة الخزينة، وسقط الاعتبار المتعلق بالخوف من حراكات لاحقة وتململ مطلبي على مستوى القطاع العام. وجازف الرزاز بالكثير سياسياً، وثمة من دفعه قسراً لهذه المجازفة ليس على أساس الحرص على البقاء في الإدارة والحكم لحكومته، ولكن على أساس الحرص على المغادرة إذا كانت قدرية من دون حرق كل الأوراق مع الشارع، خصوصاً وأن ما يعتبره المراقبون خضوعاً ينسجم مع أدبيات الرزاز المعنية بدعم المعلم قبل الأزمة.
التداعيات لن تقف عند هذه الحدود، فبعض المسؤولين يتوقعون حراكاً مماثلاً عبر جسم وظيفي ضخم ومترهل في مؤسسات أخرى قريباً قد يكون من بينها بلدية العاصمة عمان. ويبقى أن الأهم أن المعلم الأردني بدّل وغيّر في قواعد لعبة الاعتراض، فطوال شهر من إضراب صاخب لم تحرق شجرة ولم يلق حجر ولم تتحرك من مكانها عبوة نفايات، في حراك منظم ومنضبط وحضاري ينطوي على رسالة ناعمة لأصحاب القرار، كما يصف القيادي الإسلامي، الشيخ مراد العضايلة. وانتهى اليوم وبزيوت الليونة الغامضة أطول إضراب لمعلمي الأردن.. لكن قواعد جديدة للعبة الشارع بدأت والبقية تأتي في كل حال.