الأردن بصراحة… هذا ما يحصل
ثمة شبه اتفاق جماعي وتوافق في الحالة النخبوية الأردنية على الأقل وحتى في الحالة الشعبية ان الأزمة متعددة الأوجه والتحديات التي تعيشها المملكة تبدأ وتنتهي عند ما يسميه الخبراء العميقون بـ«أزمة الأدوات».
الحديث هنا عن الأدوات التي استخدمت طوال السنوات الماضية في إدارة المواقع والمناصب العليا لمؤسسات وأجهزة الدولة.
أزمة الأدوات أصبحت متواجدة ومزدوجة اليوم ليس فقط لأن أدوات التأزيم لا تزال موجودة وبقوة في الساحة.
ولكن لأن الاقصاء المنهجي الذي حصل على مدار عقدين من السنوات لرموز المهارات والمعرفة لصالح أدوات جديدة ومعنية بالولاء بدون مهنية.
بمعنى لا تكمن المشكلة في حصول ووجود أزمة أدوات في الماضي والحاضر فقط.
ولكن أيضا في الشعور العام بعدم وجود طبقة تملك المهارة اللازمة اليوم لإدارة الملفات والمشكلات والتحديات الناتجة عن أصل أزمة الأدوات.
بكل وضوح يقول التقرير الأخير عن حالة البلاد لعام 2018 والصادر عن المجلس الاقتصادي الاجتماعي ذلك وبعدة لهجات عندما يقرر أن الدولة وليس الحكومة فقط في حالة تراجع وأن الجميع مسؤولون بما في ذلك النخب والبرلمانيين وحتى الإعلاميين.
تتجاهل الحكومة وبشكل مريب وغامض الخلفيات تقرير حالة البلاد الفني الذي قدم تشخيصا جريئا لواقع المؤسسات وأبرز على نحو علمي تلك الكلفة الباهظة الناتجة أصلا عن الرهان على أدوات تميزت في جزء منها وليس كلها بالشخصنة والانتهازية في بعض الأحيان.
واندفعت بكفاءة أغلب الأوقات لتحصين مصالحها عبر الشللية مما أنتج صنفا أكثر بغضا وأبشع تأثيرا من المحاصصة خصوصا لمواقع الصف الأول وهي محاصصة هذه المرة ليست على أساس الولاء للنظام والدولة أو حتى للمرجعيات وليست على أساس الانحياز الطبيعي لخيارات الشرعية.
كانت تلك محاصصة بين مجموعة طارئة من الشخصيات النافذة لا جذور لها بالمجتمع وبعيدة تماما عن البنى الأساسية التي رفعت الدولة والنظام طوال عقود والأغرب أنها عابرة للمناطق والعشائر وللاعتبارات الكلاسيكية التي تمأسست عليها المحاصصة التقليدية.
ليس سرا هنا أن شفافية القصر الملكي وإيمانه طوال الوقت بتجديد الأذرع والنخب تم استغلاله من قبل أبطال تلك المحاصصة الحديثة العصرية.
ليس سهلا أن تجلس وتواجه الإعلام الغربي والأمريكي على وجه التحديد، خاصة إذا كنت لا تجيد اللغة، كما أن الأمر لا يقتصر على حتمية تمتعك بالحجج القوية الملائمة لأي سؤال متوقع، وإنما أيضا أن يكون لديك حضور بديهة وقدرة على التلاعب باللغة ومفرداتها كما يتلاعب اللاعب الفنان بالكرة
وليس سرا على الإطلاق أن أسلوب العمل في السنوات الماضية كان يتم في توفير الفرص لنخبة من الموظفين الكبار على رأس المؤسسات الاساسية وتمكين هذه النخبة من العمل معا في اطار مشاورات ضيقة.
كانت تلك من انماط التفويض وبحسن نية من قبل مركز القرار الذي ترك التفاصيل في الكثير من الأوقات لأردنيين توسم بهم الخير أو منحهم فرصة العمل باعتبارهم ممثلين لدماء جديدة.
هؤلاء تحديدا شكلوا طبقة عازلة ما بين الناس ومؤسسات الحكم وسرعان ما سمحت لهم طبيعة الأمور وتفصيلاتها بتضليل الرأي العام أحيانا واصحاب القرار أحيانا أخرى.
وسرعان ما خذلت الطبقة الجديدة القيادة والدولة فانشغلت بالتمرير والتبرير ونتج عن ذلك تكون وتشكل مجموعات شللية صغيرة نافذة جدا انتهت محاولتها لحماية حضورها ودورها ومصالحها بزحام شديد في منطقة ضيقة على امتيازات الدور والنفوذ وميزات المصالح بكل أصنافها.
هؤلاء طبعوا تشكيل بعض الحكومات بألوانهم وسرعان ما غيروا وبدلوا في غفلة من الأردنيين بهيكل الدولة نفسها وفي الكثير من المواقع تقاسم النافذون منهم سلسلة طويلة من المناصب العليا خصوصا تلك المتعلقة بسفارات أو مؤسسات ووزارات بحيث انقسم الجسم البيروقراطي الخبير والعميق والذي بقي مؤسسا في الأجهزة طوال عقود الى مجموعتين ساهمتا في إخلاء الساحة الأولى نفدت بريشها وغادرت المواقع والثانية اضطرت للصمت والتواطؤ.
وفي الأثناء ايضا أسيء لمفهوم الولاء نفسه فأصبحت قواعده لها علاقة بأفراد نافذين وليس بالدولة أو النظام وتذوق الكثيرون طعم الولاء للأشخاص هنا بعيدا عن الاعتبارات المهنية كما تذوق غيرهم مرارة الامتناع عن تقديم الولاء لأفراد حظوا بفرصة كبيرة داخل القرار وليس للقرار أو الدولة.
تشكلت قوى «أمر واقع» جديدا وتم التعامل بازدراء وفي بعض الأحيان باحتقار مع طبقة كبيرة من المثقفين وكبار رجال الدولة.
وحصل استنساخ مقصود لقادة جدد طارئين أيضا احتلوا أجساد العشائر والقبائل الأساسية وتم التصويت في غرف العمليات لصالح بسطاء أو هامشيين أو أشخاص يلعبون دور العضلات بدون عقل خلال الانتخابات العامة بكل أصنافها.
حتى المعيار الأمني في هذه المرحلة لم يعد كما كان في الماضي فمظاهر الولاء للأشخاص المفصليين من رموز القرار ومن مجموعة الصدفة أطاحت بكل معايير المهنية فتراكمت الاحباطات ومظاهر الاخفاق وشعر الأردنيون عموما أن دولتهم تختطف منهم فنتج عن ذلك الحراك والغضب والاحتقان.
.. هذا تماما ما حصل في الأردن.. وهذا تماما المؤشر الأكبر على الاسترسال في عملية السحب من رصيد النظام والدولة.
وما نقوله بعد ابراء الذمة أمام الله والملك والدولة والشعب الأردني الطيب هو أن التغيير يبدأ حصريا من هنا وبصورة محددة من عند خارطة النخب والأدوات.