الشعب الأردني وهو يلعب «المفتش كونان»
يمكن ببساطة ملاحظة كيف تحول الشعب إلى نسخ متكررة من المفتش «كونان» بمجرد الإعلان عن استحضار واعتقال إمبراطور التبغ الذي كان هاربا ورجل السجائر المزورة عوني مطيع.
بعض المواطنين نصبوا أنفسهم سلطة تنفيذية وأخرى قضائية وثالثة شعبية في إصدار الاجتهادات والفتاوى والمعلومات.
هؤلاء قرروا مسبقا وانطلاقا من وعيهم بصعوبة بناء الثقة بينهم وبين المؤسسات، التحدث قبل المحكمة والفتوى قبل القضاء وترسيم سيناريوهات ومعلومات قبل التحقيق.
مع رأي عام يميل إلى كل هذه الاستنتاجات ويفتي نيابة عن الجميع كيف يمكن لأي حكومة وفي أي وقت بناء المصداقية.
يفتي المواطن في الأردن ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة لسبب بسيط وهو انعدام ثقته بالمؤسسات وشعوره الدائم بوجود «نقص ما» ستلجأ السلطة للتغطية عليه.
الإحساس عميق لدى الأوساط الشعبية أن القبض على إمبراطور التبغ الفار الذي هتف الشارع باسمه واعتبر هروبه حجة ضد السلطة ودليلا دامغا على الفساد لن ينتهي بالكشف عن المزيد من اعضاء شبكة التبغ التي يعتقد أنها تتجاوز المعني والمتهم الرئيسي وتطال شخصيات متعددة في البرلمان وخارجه.
أتفهم شخصيا اسباب انعدام الثقة الشعبية بالمؤسسات الرسمية.
لكن بكل حال ثمة سلطات دستورية باسم المحكمة وثمة قضاء لا يمكنه أن يتحرك بوحي من الرواية الشعبية للأحداث.
وبكل حال ثمة مؤسسات وأدوات للقانون لا يصلح معها الاستنتاج وبناء الروايات والتوقعات ومن الصعب الحكم على نتائج التحقيق في قضية التبغ بعد التمكن من المتهم الرئيسي بناء على انطباعات او رغبات شخصية او فئوية او جهوية.
الحكومة التزمت بوعدها عندما بقيت الأجهزة الأمنية في حالة متابعة لرجل الأعمال الفار حتى تمكنت منه.
وعلى الشارع أن يمنح سلطات التحقيق فرصتها وكذلك الجهاز القضائي حيث لابد ولو من قدر من الاحترام للقانون والمؤسسات حتى لا يسترسل الجميع في عبث المصداقية مجددا.
من غير المعقول أن نرصد مبكرا بعض الاستنتاجات التي تتهم الحكومة مسبقا بعقد صفقة مع الرجل الهارب تم تسليمه من تركيا على أساسها.
المواطن من حقه المراقبة وبناء التصورات لكن بعد اكتمال التحقيقات وإلا سنرد على العبث البيروقراطي الذي نشتكي منه بين الحين والآخر بعبث شعبي يبدأ بتسريبات وينتهي بحكايات وشائعات لا حدود لها وتلتهم كل الحقائق والوقائع
ومن غير المعقول أن يفتي الجميع بما لا يعلمون به أو تظهر تلك الامكانات التحليلية والتحقيقية عند طبقة واسعة من المواطنين من خارج أسوار الخبرة.
المواطن من حقه المراقبة وبناء التصورات لكن بعد اكتمال التحقيقات وإلا سنرد على العبث البيروقراطي الذي نشتكي منه بين الحين والآخر بعبث شعبي يبدأ بتسريبات وينتهي بحكايات وشائعات لا حدود لها وتلتهم كل الحقائق والوقائع.
افتراض حسن النية بالمؤسسات أحيانا مطلوب لأن لدى الأردنيين «دولة صلبة» ضعفت قليلا بحكم عوامل الاقليم مؤخرا وبفعل مغامرات المراهقين من المسؤولين لكنها تبقى الدولة الأمل والتي يحتاجها الأردنيون في منطقة متقلبة وتبقى المؤسسات العامة الوطنية هي الملاذ في اللحظات الحرجة.
صحيح أن مسألة هروب عوني مطيع أصلا تثير الكثير من الاسئلة والتكهنات لكن على المواطن أن يمنح السلطة الفرصة لتصويب الأخطاء عندما تحصل ما دامت تحاول تصويبها علنا وبجدية وبالتزام تماما كما حصل في قضية التبغ.
لن تغلق ملفات الفساد بالقبض على فاسد واحد لا يزال متهما من الناحية القانونية ولم تثبت بعد الاتهامات المنقولة ضده.
ولن يتوقف الأردني عن الشعور أن السلطة تحاول التضليل وليست جدية في محاربة الفساد الحقيقي وإن كان القبض على المتهم الرئيسي في ملف التبغ يبعث الأمل فعلا بإغلاق قانوني ومؤسسي لهذا الملف الذي أقلق جميع الأردنيين في القيادة والشارع وأصبح عنوانا للانفلات والترهل وطبقة اللصوص التي تنتهك القانون بدون وجل أو خجل.
تدشين تحقيقات معمقة قريبا في ملف التبغ خطوة في غاية الأهمية يمكن أن تستثمرها السلطة الأردنية لإظهار صرامتها وجديتها بدون تساهل ليس فقط لأن الشارع متعطش لرؤية رموز ووجوه الفساد خلف القضبان.
ولكن ايضا لأن التراخي سابقا تغذى طوال الوقت على سمعة ورصيد النظام والمؤسسة ولأن إدارة الملفات بالطريقة القديمة لم يعد مقبولا ولا منتجا ولأن الفرصة اليوم متاحة وبعدما أمر الملك شخصيا بـ«كسر ظهر الفساد» لتصويب الكثير من مؤشرات ومظاهر الخلل بالإدارة والمسيرة.
من المعيب أن تسترسل اي حكومة او سلطة بتبرير الأخطاء وإنكارها وتشعر بالقلق عند الحديث عنها.
ومن المعيب بالتوازي ايضا أن يتواصل مسلسل التشكيك الشعبي برموز السلطة وكأنهم ينتمون إلى نفس المدرسة او يخضعون لنفس المسطرة.
ومن غير المنطقي ان لا تمنح الحكومة فرصة حقيقية لكي تمارس عملية التصويب والإصلاح إلا اذا كان الاعتراض والحراك لا يهدف للإصلاح عمليا وفي المحصلة، الأمر الذي يورطه بالأجندات ويدفع باتجاه اسئلة محورية في هذا السياق ليس لأي غرض ولكن لأن الأردني سواء عارض أو كان مواليا متمسك بدولته ومؤسساته ويعرف تمام المعرفة ما الذي يمكن ان يحصل لو تم التفريط بالمؤسسات.
الأهم على الصعيد الرسمي ليس ما فعله او سيثبت أن رجل التبغ فعله في الماضي.
لكن أن يحرم أي شخص أو مجرم أو متهرب ضريبي أو فاسد أو مختل لاحقا من فرصة مماثلة للاعتداء على المال العام والتلاعب بالقانون وبناء شبكة متكاملة من الأعوان والإفلات من العقاب.
باختصار الأهم بكثير من القبض على رجل التبغ أن لا يتكرر المشهد نفسه.