الكرك الأردنية مصطبة في الأقصى وقلعة في التاريخ
يطيب لأهالي مدينة الكرك الأردنية التحدث دوما وفي كل مجالسهم عن القدس والمسجد الأقصى.
ويطيب لهم بين الحين والآخر التجمع في الشارع الذي يحمل اسم القدس في مدينتهم أو الساحة التي تحمل اسم أقدس المدن تقريبا عند الأردنيين والفلسطينيين داخل قلعة الكرك التاريخية الشهيرة لإظهار ليس التضامن بالمعنى السياسي فقط مع المسجد الأقصى والقدس.
ولكن التمسك أيضا بتقاليد وتراث قديم يتحدث عن أجداد أهالي المدينة الذين كان موسم الحج عندهم لا يكتمل بعد زيارة مكة والمدينة المنورة إلا بـ “التقديس”.
التقديس يعني زيارة القدس بعد أداء مناسك الحج والصلاة في المسجد الأقصى وهو سلوك موروث وقديم جدا يتصور أهالي مدينة الكرك أن فريضة الحج والعمرة لا تكتمل بدونه.
يفخر أهل الكرك من الشباب اليوم بأجدادهم وجداتهم عبر تعداد مرات التقديس التي علموا بها.
بالتالي مدينة القدس على نحو أو آخر لها مكانة خاصة في وجدان أهالي المدينة الأردنية الجنوبية الشهيرة، فصور قبة الصخرة في كل مكان داخل البيوت وحتى في بيوت البدو والشعر وخلال المهرجانات وفي الاحتفالات.
والسائح الذي يمر بالقلعة الكركية الشهيرة يستطيع شراء مجسمات صغيرة من بوابة القلعة تتحدث عن مدينة الكرك ولكنها تتحدث أيضا عن المسجد الأقصى.
العلاقة الوجدانية بين المدينتين
في المقابل يؤكد سرور الصرايرة وهو باحث من أهالي مدينة الكرك يجمع معطيات تراث العلاقة بين أهلها وأهل القدس أن كون المرء في أصله من مدينة الكرك يعني تلقائيا التنشئة على ذلك الشغف الكبير بالقدس والمسجد الأقصى.
أدار الصرايرة مع متطوعين شباب مجموعة عمل تحاول تأطير تلك العلاقة الوجدانية بين المدينتين.
واحدة من أبرز الحكايات المروية طوال قرن ونصف على الأقل وبسبب زحام أهل الكرك في زيارة المسجد الأقصى قبل الاحتلال الإسرائيلي تلك التي تتحدث عن مصطبة الكرك في صحن قبة الصخرة والمسجد الأقصى، حيث مصطبة وزاوية جغرافية داخل الحرم القدسي تحمل اسم مدينة الكرك يزورها ويصلي فيها مئات الأردنيين والمسلمين الذين تتاح لهم فرص الصلاة بالقرب من قبة الصخرة.
يقدر الصرايرة بأن مصطبة الكرك أطلق أهالي القدس في القرن الماضي عليها هذا الاسم تخليدا لتلك الذكريات في الوجدان الشعبي وإسقاطا لصورة عملية التقديس في مواسم الحج.
يشعر الكركي عموما بالفخر والزهو وهو يعيد تداول ونشر شريط فيديو شهير يتحدث فيه أحد أبناء القدس من على منصة مصطبة الكرك عن زيارة قام بها مؤخرا للكرك.
يقول الراوي بأنه ذهب للكرك أملا في معرفة سر العلاقة بين المدينتين.
ويشرح الرجل المقدسي مستوى الاحتفاء الشعبي به وهو يزور أهالي الكرك ويتجول بينهم.
ويشرح أنه لم يدفع قرشا واحدا بسبب كثرة الدعوات التي قدمت إليه ويتحدث عن أصحاب المحلات والتجار الذين يرفضون البدل النقدي عندما يعلمون أن ضيفهم أو زائرهم من أبناء القدس.
صلاح الدين والصليبي شانيون
تقع مدينة الكرك على هضبة مثلثة ترتفع 900 م عن مستوى البحر، وتحيط بها أسوار أثرية تشكل المدينة القديمة، وتشكل قلعتها القمة الجنوبية الطبقية لهذه المدينة، وقد بناها الصليبيون بعد أن سيطروا على هذه المدينة في القرن الثاني عشر للميلاد.
يبلغ طول هذه القلعة 220 م وعرضها 125 م من الجهة الشمالية و 40 م من الجهة الجنوبية حيث تطل على واد ضيق زادته قناة المياه عمقا وجعلته أكثر ارتفاعاً، وقد شهدت هذه المدينة وقلعتها الحصينة أحداثاً تاريخية هامة وتحولات حضارية وملوكاً وممالك وأمماً سادت وظلت هذه المدينة محافظة على عراقتها وهي مدينة أردنية متميزة، إذ تمتاز بوجود عدد من المباني العثمانية التي تم ترميمها والتي بنيت بدقة من حجر جيري أملس، في حين أن القلعة التي نراها الآن شهدت تقلبات ومعارك عسكرية فاصلة.
وبعد أن كانت الكرك مركز المملكة الصليبية خاصة في عهد الأمير رينالد دو شانيون الذي كان مشهورا بتهوره ووحشيته من خلال خرقه لكل المواثيق والمعاهدات التي كانت توقع معه، إلا أنه كان يتصرف بوحشيه ويتعرض لقوافل التجار والحجاج في طريقهم إلى مكة المكرمة. وشن حملات على عديد من الموانئ العربية على شواطئ البحر الأحمر وبلغت فيه الوقاحة والغطرسة أنه حاول تهديد موطن الإسلام الأول مكة المكرمة، الأمر الذي دفع صلاح الدين إلى استجماع قواه العسكرية وقام بحملة قوية على هذه المدينة وأحرقها ونجح في طرد الصليبيين منها وأصبحت هذه القلعة فيما بعد حصنا عربيا أيوبيا استخدمه صلاح الدين موقعًا لإطلاق أسلحته ومنجنيقاته على قوات الصليبيين حتى أخرجهم من المنطقة.
يتحدث أحد أهم الأفلام السينمائية العالمية عن واقعة الاشتباك مع الممثل الصليبي في الكرك حيث لصلاح الدين الأيوبي مكانة بارزة ليس فقط في تاريخ المدينة بل في وجدان أهلها.
ويعد من المألوف الكركي حسب الباحث علي الحباشنة أن يؤدي بعض أهل المدينة الحج والعمرة عن صلاح الدين الايوبي بسبب اخفاقه في تأدية فريضة الحج جراء انشغاله بحماية المدينة من الصليبيين في تقليد يعتبره أهالي الكرك دينا لصلاح الدين في عنقهم.
في عهد السلاطين الأيوبيين والمماليك تم بناء تحصينات وأبراج وبوابات للمدينة والقلعة على حد سواء وأما في العصر الحديث فقد استولت الإدارة التركية التي كانت تسيطر على بلاد الشام على الكرك وقلعتها وحولت بلاط المماليك داخل القلعة إلى سجن وظلت كذلك إلى أن سددّت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي على الأتراك ضربة قاضية للحكم التركي الذي سقط نهائياً عام 1918.
اللبن الصلب “ذهب أبيض”
بالمدلول المحلي تحظى مدينة الكرك الأردنية بشهرة عالمية إلى حد كبير ليس بسبب دورها في التاريخ ولا قلعتها الأثرية العملاقة فقط.
ولكن أيضا بسبب تصنيف أحد أنواع الألبان التي ينتجها أهل المدينة من الفلاحين والرعاة باعتباره صنفا نادرا جدا يتجول كهدية ثمينة ورفيعة المستوى بين الأردنيين والفلسطينيين والعرب وحتى الأجانب في العالم.
قوالب أحجار لبن جميد الكركي تعتبر الأولى في العالم من حيث النوعية والنكهة وحتى الأسعار.
ورغم أن أحجار اللبن تعتبر من أبرز الصناعات الفلاحية والتقليدية في مختلف محافظات ومناطق الأردن وكذلك في سوريا وفلسطين وقطاع غزة، إلا ان اللبن من المنشأ الكركي يتصدر ولا منافس له في الطعم وسعره هو الأعلى تماما في العالم حيث يبلغ الكيلو غرام الواحد منه وهو عبارة عن ثلاثة أحجار فقط من اللبن نحو 70 دولارا على الأقل وفي كل المواسم.
شهرة لبن جميد الكركي دخلت حتى المطابخ العالمية في أوروبا وتركيا لأن اللبن المنتج من أهالي الكرك وفي منازلهم ومراعيهم يعتبر الصنف الأول والرفيق الدائم والأساسي لطبخة لمنسف الأردنية الشعبية الشهيرة.
ويحمل سفراء الأردن دوما معهم كميات من أحجار اللبن الكركي لإقامة موائد خاصة لكبار ضيوفهم.
كما يعتبر هذا الصنف من الهدايا النفيسة وذات القيمة المرتفعة بالرغم من ضعف الإنتاج في آخر أربعة أعوام.
وحسب تاجر اللبن عبد الله القيسي ثمة اعتبارات اجتماعية وتقليدية تمنع تحول إنتاج هذا النوع النادر من اللبن الصلب إلى صناعة تطرح كميات كبيرة من الإنتاج. فالكركي يحرص تمام الحرص على إنتاج اللبن الصلب في المنزل أو في مزرعته الخالصة من المواشي ويتم تبادل هذه المادة نادرة الإنتاج بكفاءة في الأسواق.
مع أواخر فصل الشتاء وحلول فصل الربيع يبدأ صانعو الجميد والسمن بالتجهيز لهذا الحدث السنوي والذي يعد الأهم بالنسبة لكثير من الأسر والتي يعد الجميد وبيعه مصدراً مهما لدخلها.
ويعد الجميد جزءا رئيسيا من “مونة” بيوت الأردنيين التي يحرصون على تخزينها بأساليب متنوعة تحافظ على القيمة الغذائية لهذا المنتج الوطني والذي يعتبر المكون الرئيسي للطبق الشعبي الأشهر في الأردن ألا وهو “المنسف”.
ومنذ زمن بعيد فرضت الحياة البدوية وعدم توافر أجهزة التبريد الكهربائية هذه الصناعة، فقد لجأ البدو إلى تجفيف اللبن مع الملح بما يمكّنهم من حفظه لفترات طويلة، وهو ما عرف لاحقاً باسم الجميد والذي يستخدم بصورة واسعة بسبب سهولة حفظه لفترات زمنية طويلة، بإعتباره جزءا أساسيا من مأكولات عديدة أبرزها على الإطلاق “المنسف”.
الجذور في العهد الحديدي
يعود تاريخ هذه المدينة إلى العصر الحديدي نحو سنة 1200 قبل الميلاد، وتعاقب عليها المؤابيون والأشوريون والأنباط واليونان والرومان والبيزنطيون.
وكان للكرك طوال الوقت دور بارز في إدارة المعارك الخاصة بمدينة القدس وهي تقع على ممر يراقب حركة قوافل الحجيج ويراقب العلاقة بين عرب مصر وبقية عرب الجزيرة العربية.
وجّه صلاح الدين ثلاث حملات للكرك حتى تمكن عام 1188 من احتلال القلعة الحصينة، وكان أرناط متحصناً فيها يخشى الخروج منها، لكنه لقي حتفه في معركة حطين ووقع أسيراً فضربه صلاح الدين بسيفه ولقي حتفه.
وازدهرت الكرك في عهد الدولة الأيوبية أيما ازدهار، فتجددت أبواب القلعة وترممت أسوارها وأعيد بناء قراها واهتم بزراعة الأشجار والينابيع.
بقيت الكرك تنعم بالازدهار والطمأنينية على الرغم من الخلافات التي اشتدت بين السلاطين الأيوبيين وتعرض المنطقة لغزو المغول.
احتل الظاهر بيبرس الكرك فاعتنى بها وحفر خنادق جديدة حول المدينة وقلعتها وعاشت مجدداً حياة هادئة إلى أن احتلها العثمانيون في عام 1516.
ونظراً لبعدها عن السلطة المركزية العثمانية تخاصمت قبائلها فيما بينها على التحكم والسيطرة وعاشت الكرك إبان الحكم التركي فترة من التحكم البغيض قبل ان تستقر فيها وتنطلق بالقرب منها الثورة العربية الكبرى التي تخلصت من الإرث العثماني.
تعتبر الكرك مدينة سياحية بإمتياز ومناخها معتدل وجبلي وأهلها طيبون يزرعون الشعير والقمح والقليل من الخضراوات ويصنعون اللبن الصلب.