«رزاز» الأردن… بين المفكر و«السياسي»
يعلق المواطن الأردني مجددا في تلك الحالة الهلامية التي تدفع آماله وطموحاته نحو زوايا ضيقة للغاية بعنوان الفوارق والهوامش ما بين المفكر والسياسي.
يحاول الأردنيون بشغف اليوم رسم سيناريو محدد وواضح لتقييم تجربة حكومة الدكتور عمر الرزاز.
يسأل أحدهم بصوت مرتفع أمامي: كيف انتقل الرجل ـ يقصد الرزاز ـ من مستوى المثقف والمفكر إلى رجل سياسي فجأة وبهذه السرعة؟
يبدو لي إنه سؤال شرعي وإن احتاج لمزيد من التحليل فحكومة الرزاز عندما تشكلت فهم الجميع الرسالة على أساس أن السلطة التنفيذية بين يدي محلل ومثقف بطيء ومنظم لكنه عميق ومتدرج وينظر للمشكلة من إطار علمي ومنهجي بعيدا عنها.
أزعم أن الدكتور الرزاز التقط عندما ترأس الحكومة مبكرا حالة تعطش الجمهور لحكومة تُعلي من شأن الثقافة والفكر بمعنى تستطيع إن سمحت لها الظروف تجاوز العشوائية والارتجال وفي الحد الأدنى وضع خطة لمواجهة أي مشكلة.
بعد هذا الالتقاط الاحترافي قرر رئيس الوزراء الاستثمار في إعادة إنتاج التصور الجماعي الشعبي عن رئيس الحكومة فبدأ يتحدث مع الناس برومانسية ويكثر من إطلاق الأفكار النبيلة والكبيرة وبصورة انتجت انطباعا مبكرا بعنوان صحوة ما في ضمير الدولة وإرادة حقيقية بالتغيير والإصلاح.
لا يحتاج الأمر عمليا لأكثر من ستة أشهر حتى يكتشف الجميع القيمة الحقيقية لأي فكرة نبيلة أو إصلاحية عندما توضع على الأرض لأغراض التنفيذ وعندما تختبر في الميدان حيث ثقافة سائدة بيروقراطيا ضد الأفكار الجديدة ووصفات كلاسيكية معلبة ليس من السهل هزيمتها أو حتى خدشها في بعض الأحيان.
وحيث مقاومة عكسية متجذرة ودائمة وحرس قديم يشاغب ويناور ويناكف وشارع جائع ليس فقط للاعتراض والصراخ ولكن للحرية والقول والتصرف والأهم للقمة الخبز والعيش الكريم.
عادت حكومة الرزاز للناس بقانون ضريبة أبشع من ذلك الذي سقطت بسببه الحكومة التي قبلها.
وفجأة بدأت تظهر ملامح تراجع إذا لم نقل صورة المفكر والمثقف مقابل الواقعي والسياسي والميداني والحقيقي.
يلفت بعض الخبراء والخبثاء نظري هنا إلى مفارقات مهمة في تلك المساحة التي اتسعت في الأداء والنتائج ما بين صورة المثقف والمفكر الذي يتسلم السلطة وبين صورة السياسي الذي يراوغ ويناور ويحاور وينحي ويتسلل ويمارس كل البهلوانيات التي يألفها الناس عند السياسيين.
على سبيل المثال لا الحصر دخل الرزاز وشخصيا مرتين على الأقل في نقاش مهم مع شاب يدعى قتيبة سأله عن نواياه الشخصية في الهجرة من الأردن.
عادت حكومة الرزاز للناس بقانون ضريبة أبشع من ذلك الذي سقطت بسببه الحكومة التي قبلها
يقال إن قتيبة هاجر فعلا رغم أن الرزاز طلب منه شخصيا وعلنا مرتين على الأقل الصبر قليلا.
لكن المفارقة أن رئيس الوزراء نفسه عندما انتقل من دائرة المفكر إلى السياسي لم يعلق ولا بكلمة واحدة إطلاقا على رئيس جمعية المخترعين الدكتور فايز ضمرة عندما نشر رسالة علنية مؤثرة جدا أعلن فيها نيته الهجرة إلى تركيا لأن البلاد لا تحترم المخترعين والمبتكرين.
غريب جدا أن يدخل رئيس الحكومة بثقله الشخصي بإقناع شاب صغير العمر بعدم الهجرة في الوقت الذي لا يتلقى فيه المخترع الأهم والأكبر ومن يرعى مواهب المخترعين أي اتصال من أي مسؤول في الحكومة يسأله أو يستفسر منه عن رغبته في الهجرة.
في مثال حيوي آخر يسجل أحد الساسة المفارقة عندما زار رئيس الحكومة أكبر مستشفيات القطاع العام قبل أربعة أشهر واعدا بأن يتحول هذا المستشفى إلى نبراس على مستوى الخدمات الصحية.
لافت جدا هنا أن الموازنة التي تقدمت بها الحكومة تضع صفرا مقابل البند المتخصص لتمويل المستشفى نفسه.
بمعنى آخر يصبح السؤال مشروعا حتى مع دهائه السياسي المقصود حول الآلية التي ستحول مستشفى البشير الحكومي الضخم في العاصمة إلى نبراس من أي نوع في الوقت الذي لم يخصص له فيه ولو دينار واحد مع أن المستشفى يشكو ويتذمر من العبء الضخم الذي يواجهه ومع أن وزير الصحة يشتكي من عدم وجود إلا جراح قلب واحد فقط في القطاع العام.
يتذكر الأردنيون أن الرئيس الرزاز زار موقعا اشتهر بالتلوث شرقي العاصمة عمان اسمه «بركة الببسي»… وعد الرئيس علنا آنذاك بأن تنتهي مشكلة الموقع لكن الحكومة تدخل قريبا في شهرها العاشر فيما لا يزال الموقع نفسه يعاني في الوقت الذي يصر فيه عمدة العاصمة على التحدث للإعلام الدولي عن مدينة خالية من الكربون.
تبدو المفارقات كثيرة من هذا النوع خصوصا عندما يتعلق الأمر بملف خدمات القطاع العام قبل تحول الحكومة المفاجئ إلى آلية سياسية ثقيلة تريد تسجيل وتوثيق اختراقات ضخمة في أسواق العراق وسوريا وتركيا عشية الاستعداد لمؤتمري لندن ووارسو.
يعود الأردني للأسف الشديد إلى المربع الأول مع حكومة بدأت تغادر منطقة الفكر والثقافة وتميل إلى لغة السياسي في وصفة يبدو أنها غير مرشحة للصمود أكثر وهي نفسها الوصفة التي تعيد تذكير الوجدان الشعبي بقصة الغراب والطاووس والحمامة.