اراء و مقالات

غرب نهر الأردن وشرقه: حكومة الخصاونة على «الجسر» ونقاش في مكاسب وأخطار لعبة «النفي المتأخر»

عمان ـ «القدس العربي»: سياسياً، تمشي الحكومة الأردنية على خيط رفيع جداً ومشدود حفاظاً على صورتها العامة وهي تتحرك من نقطة تكثيف عنوانها «التوازن والمصالح» إلى نقطة أخرى بعيدة نسبياً، فكرتها احتواء الداخل أكثر وبالقدر الممكن في مواجهة استحقاقات وتداعيات طوفان الأقصى، الذي يطرق أبواب كل الحبال العصبية في الدولة وبين الناس.
إعلامياً، المشوار بين هذه النقطة وتلك صعب ومعقد. وقد يبرر الحديث العلني الصارم أمس الأول، على لسان رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة شخصياً وهو يمارس مهارة الاحتواء بنفي صلب ومتين لوجود ممر أو جسر بري في قطاع النقل تعبر بواسطته الشاحنات إلى الكيان الإسرائيلي.
صعوبة الفكرة تنطلق من أن اعتقاد الحكومة طبيعة المصالح الأردنية الحساسة تتطلب الحفاظ على نمط من التطبيع، فيما الاحتواء الحقيقي للشارع الداخلي يتطلب جرعات أكبر من المصارحة والشفافية، لا بل حتى من تنويع الروايات والمصادر على حد تعبير خبير من وزن الدكتور محمد الحلايقة، ينصح وعبر «القدس العربي» مجدداً بأن تتحدث الحكومة مع الشعب بوضوح دوماً، وبأن تكشف الأوراق جميعها في الرهانات والتحديات حتى تحافظ الدولة ومعها الناس على أبهى صور التوافق والتوحد في مرحلة حساسة وحرجة. لا أحد يعلم بعد ما إذا كانت نصيحة الحلايقة تجد آذاناً مصغية في دوائر صناعة القرار الحكومي.

«خطأ محتمل»

والجميع لاحظ مؤخراً أن الرئيس الخصاونة يلمح إلى أن حكومته قد لا تصمت على التشكيك عندما يطال سمعة البلاد، الأمر الذي قد يوحي بالاقتراب من «خطأ محتمل» قوامه اندفاعة في استعمال نصوص قانون الجرائم الإلكترونية.
وقبل ذلك، يستدعي مسؤول هنا أو مستشار هناك بعض الكتاب لإبلاغهم فجأة ودون تقديم أدلة وبراهين مقنعة، بأن أخطار التهجير غربي نهر الأردن تراجعت أو تقلصت.
القدرة على نفي ما يعتبره المواطنون عموماً اليوم وقائع وحقائق غير قابلة للنفي، أصبحت بحد ذاتها لغزاً بالنسبة للنخبة الأردنية؛ فالحكومة تستجيب للتوجيهات طبعاً عندما يتعلق الأمر بمسارين، هما الاختراق الدبلوماسي والاشتباك ضد العدوان الإسرائيلي، ثم بذل كل ما يمكن لإرسال المساعدات.
مهمتان صعبتان، والأردن بوحي ومنطلق مرجعي يتصدر فيهما بكل وضوح. لكن داخل أروقة القرار، ثمة مقتنعون بأن إدارة التحديات تتطلب توازناً ما وتقديم بعض التنازلات، وبأن إنفاذ مثل تلك المهام الصعبة يتطلب تنفيذ هامش مناورة وحركة أوسع للبلاد ولحكومتها.
لذلك، يعتقد أن رئيس الوزراء يقرن عبارة صامتة ينفي فيها وجود ممر بري ينقل البضاعة إلى إسرائيل بعبارة أخرى لا تعوزها المرونة الدبلوماسية، تقول ضمناً إن قطاع النقل الأردني لم يتغير عليه شيء منذ 25 عاماً.
العبارة الثانية قد تعني بكل بساطة أن الالتزام بمقتضيات تجارة الترانزيت بين الدول التي سبق أن ألمح لها وزير الصناعة والتجارة يوسف الشمالي، لا تطرح مسوغاً قانونياً لمنع عبور أي حاوية أو شاحنة إلى إسرائيل من دول تقيم علاقات معها، مثل الإمارات والبحرين. والتلميح ضمني هنا أيضاً بأن قطاع النقل كان أصلاً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر يستقبل شاحنات وحاويات تصدر لإسرائيل.
لذا، فإن نفي الحكومة صحيح، بمعنى لا يوجد جسر بري يتحدث عنه الإعلام الإسرائيلي فقط، لكن قد يصبح صحيحاً، بالمقابل، إن زادت الحركة التجارية بين الكيان ودول أخرى في المنطقة عبر النقل الأردني، في جزئية لا تتحمل عمان طبعاً مسؤوليتها.
هل المسألة متعلقة بخلاف على التسميات؟ الملتقيات الشعبية المتضامنة مع المقاومة تستعمل عبارة «الجسر البري» التي يستعملها الإعلام الإسرائيلي فقط. وما نفاه رئيس الوزراء هو وجود جسر بري دون أن يعني ذلك نفي وجود حركة شاحنات بتقنية الترانزيت.
في المقابل، هذا التلاقح الإعلامي يظهر مجدداً أن المشي بين المتناقضات في إطار التوازن ما بين المشاعر والمواقف والثوابت والوقائع هو أقرب إلى مهمة المشي بين الألغام والتحرك حكومياً على جسر يمزج ما بين الاحتواء للداخل والاستمرار في العزف على أوتار توازن المصالح، وهو أمر يحتاج إلى رشاقة بيروقراطية وسياسية، وهي الرشاقة التي تمتعت بها الحكومة خلال الأيام القليلة الماضية. لكنها رشاقة من الطراز الذي لا يمكن القول إنه لا ينطوي على مغامرة بمصداقية الخطاب الرسمي في النهاية؛ لأن ما يتحدث به إعلام إسرائيل يومياً وبصفة متكررة تستفز مشاعر الأردنيين العميقة، ليس فقط معلومات عن الجسر البري، بل ينقل فعاليات هذا النقل التجاري -إن جازت التسمية- بالصوت والصورة.
وتسترسل حكومة إسرائيل بإحراج سلسلة النفي الحكومية الأردنية بأرقام رسمية تعلن عن أن تركيا والأردن حصراً تمكنا من تزويد الكيان بنحو 59٪ من احتياجاته من الخضار حصراً بعدما أغلق غلاف غزة على الزراعة. ذلك رقم ضخم تبناه في النقاش مع «القدس العربي» المرجع القانوني البارز الدكتور أنيس القاسم، وهو يشير الى أن الإحصاء الحكومي الإسرائيلي عرض الأرقام، لذا لا نتحدث هنا عن عبوة بندورة أردنية بعدة كيلوغرامات، بل شحنات ضخمة يقر بها الإسرائيلي.

كارثة… «نحن حتماً مستهدفون»

ما يخشاه القاسم، وقد عبر عن ذلك علناً، أن السماح بتوريد هذه الكمية من دول مثل تركيا والأردن بعد 7 أكتوبر قد يجر كارثة قانونية على البلدين عندما تنتقل الأمور في محكمة العدل العليا إلى التدقيق في سجلات وتقارير إحصاءات رسمية توضح من لم يلتزم بقرار المحكمة بخصوص أعمال حرب الإبادة. ذلك برأي القاسم «سيحصل حتماً يوماً ما» ومؤذ جداً لسمعة الأردن ومصالحه.
الحكومة وفي إطار تلك التوازنات الغامضة العجيبة، ليست ملزمة ولا معنية بما يصفه أو يقترحه القاسم أو غيره. والقرار البيروقراطي واضح، وهو النفي؛ وأحياناً بالنسبة للوزراء حصراً، هو التلاعب بالكلمات والتصريحات، الأمر الذي دفع الناشط النقابي البارز أحمد أبو غنيمة لنشر تغريدة تعليقاً على الخصاونة ونفيه مضمونها «حسناً، دولة الرئيس، نحن نصدق الحكومة والإعلام الرسمي، لكن عليكم التحدث مع وزيرة النقل الإسرائيلية لأنها من أعلنت عن الجسر البري».
للنقل مكاسب في الاحتواء، لكن له «مخاطر» إن ثبت عكسه أو «تأخر أكثر مما ينبغي» والتشكيك بكل حال «غير مفيد» ولا يجوز.
كما تفعل واشنطن تماماً، تمارس تل أبيب هوايتها القديمة نفسها، حيث يفضح إعلامها ما يستره أو يحتويه الإعلام الرسمي الأردني.
وفي مواجهة ألاعيب وأكاذيب أذرع الإعلام الإسرائيلي، سرعان ما تصبح روايات الوزراء ـ بصرف النظر عن دقتها وصدقيتها ـ مجالاً حيوياً للتشكيك؛ بمعنى أن النفي راسخ في ذهن الناس وقد يؤشر إلى لعبة سياسية ما، لأن أصل الهاجس الوطني العمومي يختصره برلماني وسياسي عتيق مثل الدكتور ممدوح العبادي، وهو يقول إن أطماع اليمين الإسرائيلي قادمة لا محالة، وستعبر جسور نهر الأردن في اتجاه شرقه… «نحن حتماً مستهدفون».

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى