عندما «يزحف» الإصلاح في الأردن
لم تتغير البوصلة كثيراً، فالحديث عن الإصلاح أكثر بكثير من ممارسته، والأجندة البيروقراطية المركزية تمسك بالمفاصل وتحتكر النفوذ وتتموقع في مكان تسطو فيه على الآخرين
لا تزال العبقرية الإدارية التي تفترض في الحالة الأردنية بأن الإصلاح الاقتصادي ممكن وفعال بدون تقديم أي تنازل في ملف الإصلاح السياسي باقية وتتمدد.
مؤخراً فقط، حملت هذه العبقرية في طريقها حتى رئيس وزراء إصلاحي أو يكثر من الكلام عن الإصلاح من وزن الدكتور عمر الرزاز، الذي خضع على هامش نقاشات الكواليس في ملف قانون الانتخاب للمنطق الكلاسيكي المؤمن فقط بـ«التسكين».
وسط المحاججة وظروف البلاد والعباد ومناخ الإقليم، تنمو تلك الشرائح من المسؤولين، وأحياناً من السياسيين الذين يمسكون، بحرفية عالية وبصلابة، وجهة نظر تحذر المرجعيات من كلفة الإصلاح والتغيير.
لسبب أو لآخر، يترك هؤلاء المحذرون من الإصلاح السياسي، وبصورة غير مفهومة، في مواقع التأثير والنفوذ، ويحبطون بالتالي أي محاولة تلفت نظر الدولة والقرار إلى أن الإصلاح السياسي، سواء بمعناه الوطني أو الانتخابي، ضرورة ملحة لإنجاز الإصلاح السياسي والإداري.
ما يصفه الدكتور مروان المعشر بـ« قوى الأمر الواقع» لا يزال هو العنوان المفضل في أروقة القرار، وعبثاً يحاول هنا وهناك ديمقراطيون أو إصلاحيون تحقيق اختراعات أو تسلل بأفكار ومقترحات.
أخشى شخصياً، وبكل صراحة، من أن تفوّق المدرسة الكلاسيكية والمحافظة المضادة للإصلاح السياسي قد وضع البلاد والعباد في زاوية ضيقة وحرجة جداً تمثل الهامش في المسافة ما بين الرغبة والقدرة. بمعنى آخر، أخشى أن الأمور وصلت إلى مستوى عدم وجود القدرة على الإصلاح والتغيير الإيجابي، حتى عندما نفترض بأن الرغبة موجودة، وكذلك النية.
لأن الاستعصاء والإنكار قيمتان تتغذيان يومياً على الإحباط وتعززان القناعة بأن الكثير من مراكز القوة في المجتمع والدولة في طريقها لفقدان الإيمان، وبالتالي القدرة على إنجاز تغييرات أو إصلاحات ذات قيمة.
مثل هذا المنطق يمكن ببساطة قصفه بتهمة العبث والسلبية، لأن الإصرار على ضرورة الإصلاح الوطنية في كل القطاعات ينبغي أن يكون منصفاً ويتجاهل إنكار ما يتم من إصلاحات.
نعم، حصلت إصلاحات إدارية واقتصادية وهيكلية في الحالة الأردنية.
نعم، ثمة في الأفق مشاريع إصلاحية كبيرة.
لكن نعم، بالمقابل وبقوة، للقول بأن أي إصلاحات فرعية هنا وهناك بدون وعاء وطني شامل تحت عنوان الإصلاح السياسي- لا يمكنها أن تظهر للناس بقوة ولا يمكنها أن تشكل بالنتيجة بديلاً فعلياً عن الحاجة الملحة لممارسة اللعبة بعد الآن بقواعد عمل جديدة ونظيفة.
عندما يتعلق الأمر بالإصلاح السياسي نلاحظ مع جمهور المتحسرين بأن فيتو المنطق الأمني لا يزال هاجساً، خصوصاً في مساحة تطوير قانون الانتخاب. ثمة فيتو على الحركة الإسلامية ونفوذها، وآخر على تعددية الصوت.
وثمة فيتو على فكرة التكتلات، وشقيق له على مشروع الأغلبية البرلمانية، وبالمقابل ينحسر عدد أنصار استقلالية السلطة القضائية، وتنمو القبضة الأمنية وتعود للواجهة ظاهرة منع النشطاء المعارضين من السفر. وتزيد أو تتقلص الاعتقالات، وبالتالي هوامش الحريات العامة.
بالأثناء أيضاً، لا تحارب الدولة الواسطة، وتغيب سياسات الإنصاف والعدالة والوضوح والشفافية في التعيينات العليا، ويسند نظام المحاصصة الكريه في اختيار الوزراء وكبار المسؤولين حتى على حساب مصلحة الدولة والنظام وعلى حساب قيمة المهنية.
لا تزال قاعدة «سكن تسلم» هي الفيصل، ورواد الولاء المسموم الفارغ يتصدرون الواجهات، والشللية تتوسع. وظهور طبقة من النافذين الطارئين كذلك، والمال السياسي منتشر بكثافة.
كل ما هو مضاد لقيمة الإصلاح السياسي وفكرة وجود مؤسسة برلمان تمثيلية قوية أو لمنهجية المواطنة والولاية العامة يسمح له بالولادة والتكاثر تحت عناوين أمنية أو بيروقراطية واهمة، لها علاقة مرة بالصراع مع إسرائيل ومرات بشهوة النخب لاحتكار السلطة والوظائف والتحكم بالأدوار والامتيازات.
بالمقابل، تزحف مقترحات الإصلاح السياسي التي يمكن التوافق وطنياً عليها ببطء شديد، وتقمع أحياناً قبل الولادة، ولا يسمح لها بالتعبير حتى عن حصتها من التفكير في مطابخ القرار.
ولا تزال الأبوية سيدة الموقف في الوقت الذي لم تعد فيه الدولة تستطيع أصلاً تقديم الرعاية الناضجة والمعقولة، ولو في الحد الأدنى لشرائح ومكونات كبيرة في المجتمع.
ما نريد أن نقوله باختصار: تتغير الظروف والاحتياجات والتحديات في بلد مثل الأردن، لكن ذهنية الإدارة في عقل الدولة، وعندما تقرر تغيراً في مسألة الإصلاح، تبدو زاحفة وبطيئة جداً وتسمح لثقافة التخويف والإنكار بالنمو والحضور والنفوذ.
بالرغم من كل الضجيج في الخارج والداخل بعنوان الإصلاح الشامل وخططه ومشاريعه، لم تتغير البوصلة كثيراً، فالحديث عن الإصلاح أكثر بكثير من ممارسته، والأجندة البيروقراطية المركزية تمسك بالمفاصل وتحتكر النفوذ وتتموقع في مكان تسطو فيه على الآخرين.
الوضع في المشهد الداخلي الأردني صعب ومستعص، ولا مجال للتفكيك ومغادرة الاستعصاء إلا بصافرة إصلاحية حاسمة تتحرك بدافع الإيمان وليس الادعاء.. إذا أطلقت هذه الصافرة يوماً فلكل حادث حديث